كتاب شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية (اسم الجزء: 1)

الشعراء، وليس من المعهود في أخلاق العرب أن يعرضوا مفاتن الحليلات على الناس.
الملاحظة الثالثة: جعل شكوى الشاعر من حرّ الهجير، ووصف الراحلة، ووصف ما عانت من تعب الارتحال وسيلة ليوجب على الممدوح حقّ الرجاء والطلب. ولنا هنا تعليقتان: الأولى: كون وصف الراحلة والطريق من خصائص قصيدة المدح فقط لا يصح؛ لأن الوقوف على الأطلال، والنسيب، ووصف الراحلة يوجد في قصائد الفخر أيضا. فقصيدة لبيد في الفخر، تبدأ بالأطلال، وقصيدة الحارث بن حلّزة تبدأ بالأطلال، وهي في الفخر، وقصيدة طرفة بن العبد، يعدّد فيها مفاخره وبدأت بالأطلال ... والأمثلة لذلك لا تحصى.
وليست كلّ قصيدة مدح تتبع الخطوات التي ذكرها. فقصيدة زهير المعلقة في مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف: بدأت بالأطلال، ووصف الظعائن، ولم يصف الطريق والراحلة. وقصيدة حسان بن ثابت اللاميّة في مدح الغساسنة، بدأت بالأطلال، وثنّت بالمدح. وقصيدة علقمة بن عبدة في مدح الحارث بن جبلة الغساني مطلعها:
طحا بك قلب في الحسان طروب … بعيد الشباب عصر حان مشيب
وهو مطلع في النسيب، ولم يذكر الأطلال.
التعليقة الثانية: حول تفسير سلوك الشاعر هذا المنهج في قصيدة المدح: فإن خطوات قصيدة المدح هي التي
أوهمت بتفكك القصيدة العربية. فالقارئ العجل يقول: وما علاقة الأطلال والغزل ووصف الناقة بموضوع المدح؟ إنّ الشاعر أدخل في القصيدة ما ليس منها. وما نقله ابن قتيبة في تفسير هذا المزج بين المدح وغيره ألقى بعض الضوء على سرّ ذلك، ولكنه لا يقنع بوحدة القصيدة. والتفسير عندي:
أ - إن كلّ ما قاله الشاعر قبل الوصول إلى موضوع المدح، يفرضه مقتضى حال قصيدة المدح، وتفرضه السّنّة المتبعة في حال خطاب الطلب. فإنه يغلب على أحوال المادحين، أن يطلبوا من الممدوح عطاء، أو يلمحوا إلى حاجتهم من قصد مجلسه. وليس من حسن الخطاب أن يطلب الإنسان حاجته دون تمهيد. قال

الصفحة 39