كتاب شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية (اسم الجزء: 1)

قلبي وقصدتك طالبا جودك، وربما أراد أن يقول: ليس في حياتي ما أقدّمه على ملاقاتك، ولو كانت ألصق الذكريات بي، وأحبّها إليّ. وللدلالة على صلة الأطلال والنسيب بموضوع المدح، يربط الشعراء بين هذه المقدمة وما بعدها برباط فنيّ، يسمونه «حسن التخلّص»، وانظر مثال الربط القوي وحسن التخلص بين الأقسام، المفضلية رقم «25» للحارث بن حلزة اليشكري في مدح الملك قيس بن شراحيل.
والمفضلية رقم «119» لعلقمة بن عبدة، في مدح الحارث بن جبلة.
والخلاصة: أن كلام ابن قتيبة في المقدمة، كان يصح لو قال: «إن مقصّد قصيد «المدح» إذا بدأ بوصف الديار ... الخ».
وقلت: قصيد المدح؛ لأننا وجدنا أن المنهج الذي وصفه لا يعمّ القصيد كلّه. وقلت: «إذا» لأن قصائد المدح لا تتبع كلّها الخطوات التي وصفها: فقصيدة المدح قد تبدأ بالوقوف على الديار، وقد تبدأ بالغزل بدون الوقوف على الأطلال.
وقد يصف الشاعر الراحلة والطريق، وقد يكون المدح بعد الوقوف على الأطلال ..
فالذي قاله ابن قتيبة خاص بقصائد. ورأينا خيوطا فنيّة ومعنوية تربط بين أجزاء قصيدة المدح، بل قل: بين خطوات قصيدة المدح. فهي قصة المادح منذ كان في دياره، إلى أن يرتحل ويصل إلى الممدوح، فيقول له ما قاله، وينال عطاءه. ولم يقل أحد إن القصة ذات لون واحد، فهي تصف الزمان والمكان والحدث، ومع ذلك نعدّها وحدة متكاملة. وإذا وجدت قصيدة لا تربطها الروابط، فليس ذلك من عيب فيها، وإنما جاء العيب من الرواية، فإذا أردت أن تحكم على الشعر، فعليك بالقصائد الصحيحة الرواية التي لم تخلّ الروايات بشيء من عدد أبياتها، أو ترتيبها كما سيأتي بيانه، فقد كان العرب أهل ذوق فنيّ، ولم يكونوا يخلطون بين الألوان المتنافرة. هذا، وإذا عاندت ولم تقنع بما قدمت من تفسير خطوات قصيدة المدح، فإنني أقول: إنّ قصائد المدح في الشعر الجاهلي لا تساوي 1/ 30 من بقية الشعر، فما كثر المدح إلا في زمن خلفاء بني أمية ومن بعدهم، وسوف نرى تعاضدا أشد لا ينكر بين أجزاء القصيدة في الفنون الأخرى، فيما يأتي من الكلام إن شاء الله.
* وأما جهة الوهم الثانية: فهي كثرة الأبيات السائرة التي تدلّ على معنى منفرد:

الصفحة 41