كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء، 41) .
فإن قيل: هلا قيل لكم شهيداً إذ شهادته لهم لا عليهم أجيب: بأنّ الشهيد لما كان كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ومنه قوله تعالى: {وا على كل شيء شهيد} (المجادلة، 6) .
فإن قيل: لم أخرت صلة الشهادة أوّلاً وقدّمت آخراً أجيب: بأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم {وما جعلنا} أي: صيرنا لك {القبلة} الآن وقوله تعالى: {التي كنت عليها} ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي جعل أي: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أولاً وهي الكعبة وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إليها، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفاً لليهود فصلى إليها ستة أو سبعة عشر شهراً ثم حوّل إلى الكعبة {إلا لنعلم من يتبع الرسول} فيصدّقه {ممن ينقلب على عقبيه} أي: يرجع إلى الكفر شكاً في الدين وظناً أنّ النبيّ في حيرة من أمره، وفي الحديث: «أنّ القبلة لما حوّلت ارتدّ قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه» .

فإن قيل: كيف: قال الله تعالى لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها أجيب: بأنه أراد به علم ظهور وهو العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد، ومعناه أي: لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ونظيره قوله تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران، 142) وقيل: ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته تعالى؛ لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده وقيل: معناه لتمييز التابع من الناكص كما قال الله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} (الأنفال، 37) فوضع العلم موضع التمييز التابع؛ لأنّ بالعلم يقع التمييز، فالعلم سبب والتمييز مسبب، فأطلق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز.
تنبيه: العلم في الآية إمّا بمعنى المعرفة، فيتعدى إلى مفعول واحد وهو من يتبع، وإمّا معلق لما في من معنى الاستفهام، وإمّا أن يكون مفعوله الثاني ممن ينقلب أي: ليعلم من يتبع الرسول مميزاً ممن ينقلب.
فإن قيل: على الأوّل كيف يكون العلم بمعنى المعرفة والله تعالى لا يوصف بها؛ لأنها تقتضي سبق جهل والله منزه عن ذلك أجيب: بأنّ ذلك لشيوعها فيما تقتضي أن يكون مسبوقاً بالعدم وليس العلم الذي بمعنى المعرفة، كذلك إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين، بل قال الوليّ العراقي: قد وقع إطلاق المعرفة على الله تعالى في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة أو كلام أهل اللغة وقوله تعالى: {وإن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: وإنها {كانت} أي: التولية {لكبيرة} شاقة على الناس {إلا على الذين هدى الله} منهم وهم الثابتون على الإيمان {وما كان الله ليضيع أيمانكم} أي: ثباتكم على الإيمان، وإنكم لم تزلزلوا ولم ترتابوا بل شكر سعيكم وأعدّ لكم الثواب العظيم أو صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه؛ لأنّ سبب نزولها «أنّ حييّ بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هدى فقد تحوّلتم عنها، وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة، فقال المسلمون: إنّ الهدى ما أمر الله تعالى به، والضلالة ما نهى الله تعالى عنه قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا، وكان قد مات قبل أن تحوّل القبلة

الصفحة 100