كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

ذلك؟ قال: لست أشك في محمد أنه نبي وأمّا ولدي فلعل والدته خانت فقال عمر: وفقك الله تعالى يا ابن سلام فقد صدقت.
فإن قيل: لم خص الأبناء من الأولاد؟ أجيب: بأنّ الذكور أشهر وأعرف وهم لصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق {وإنّ فريقاً منهم} أي: أهل الكتاب {ليكتمون الحق} أي: صفته صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة {وهم يعلمون} ولا يظهرونه عناداً.
وقوله تعالى: {الحق من ربك} كلام مستأنف، والحق إما مبتدأ خبره من ربك والمعنى أنه الحق أي: ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الحق ومن ربك حال أو خبر، بعد خبر والمعنى أنّ ما جاءك من العلم أو ما يكتمونه هو الحق لا ما يزعمون {فلا تكونن من الممترين} أي: من الشاكين في أنه من ربك أو في كتمانهم الحق عالمين به أي: فلا تكونن من هذا النوع وهو أبلغ من لا تمتر وليس فيه نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه؛ لأنه غير متوقع منه بل إما لتحقيق الأمر، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر، وإمّا أنّ المراد به أمته.

{ولكل} أي: أمة من الأمم {وجهة} أي: قبلة أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة {هو موليها} وجهه في صلاته، وقرأ ابن عامر وحده مولاها بفتح اللام وألف بعدها أي: هو مولى تلك الجهة قد وليها، والباقون بكسر اللام وياء بعدها وعلى هذا فأحد المفعولين محذوف أي: هو موليها وجهه كما مرّ تقديره أو الله تعالى موليها إياه {فاستبقوا الخيرات} أي: بادروا إلى الطاعات وقبولها من أمر القبلة وغيره مما تناولوا به سعادة الدارين {أين ما تكونوا} أنتم وأهل الكتاب {يأت بكم الله جميعاً} يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم {إنّ الله على كل شيء قدير} فيقدر على الإحياء والجمع.
تنبيه: رقق ورش الراء المفتوحة بعد الياء الساكنة. واتفق المصاحف على قطع أين من ما هنا.
فإن قيل: له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب: بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعاً يتوالدون يقال لهم: الجن ومنهم إبليس، وقيل: إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه} (الكهف، 50) وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، قال البغوي: والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى: {كان من الجنّ} أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة، وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة، وقال قوم: من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلى الجنة وقيل: إنّ الجنّ أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضاً أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضاً والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال: فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس.

تنبيه: من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمناً.
تنبيه: ما مقطوعة من حيث في موضعي هذه السورة، وكرر سبحانه وتعالى التولي لشطر المسجد الحرام ثلاث مرات لتأكيد أمر القبلة وتشديده؛ لأنّ النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان، فكرر عليهم ليثبتوا ويقوموا ويجدّوا؛ ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر؛ لأنه تعالى علق بكل آية فائدة، ففي الأولى أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر محمد أو أمر القبلة حق لمشاهدتهم له في التوراة والإنجيل، وفي الثانية أنه تعالى شهد أنه حق وشهادة الله تعالى مغايرة لعلم أهل الكتاب، وفي الثالثة بيان العلة وهي قطع حجة اليهود أو لأن الأحوال ثلاثة أوّلها: أن يكون الانسان في المسجد الحرام وثانيها: أن يخرج عنه ويكون في البلد وثالثها: أن يخرج عن البلد، فالآية محمولة على الأوّل والثانية على الثاني والثالثة على الثالث وقوله تعالى: {لئلا يكون الناس} أي: اليهود والمشركين {عليكم حجة} أي: مجادلة في التولي علة لقوله: قولوا والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وأن محمداً يجحد ديننا ويتبعنا

الصفحة 103