كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

{إن الصفا والمروة} هما على جبلين بمكة في طرفي المسعى، قال القرطبيّ: وذكر الصفا؛ لأن آدم وقف عليه، وأنث المروة؛ لأنّ حوّاء وقفت عليها {من شعائر الله} أي: أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة أي: من أعلام مناسكه ومتعبداته {فمن حج البيت أو اعتمر} أي: تلبس بالحج أو العمرة، والحج لغة: القصد. والاعتمار: الزيارة، فغلبا شرعاً على قصد البيت وزيارته على الوجهين المعروفين {فلا جناح} أي: لا إثم {عليه أن يطوّف} فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء {بهما} أي: بأن يسعى بينهما سبعاً.
فإن قيل: كيف أنهما من شعائر الله، ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ أجيب: بأنه كان على الصفا آساف، وعلى المروة نائلة وهما صنمان، يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين، فلما طالت المدّة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسخوهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية، فأذن الله تعالى فيه وأخبر أنه من شعائر الله، والإجماع على أنّ السعي بين الصفا والمروة مشروع في الحج والعمرة، وإنما الخلاف في وجوبه، فعن أحمد أنه سنة وبه قال أنس وابن عباس لقوله تعالى: {فلا جناح عليه} فإنه يفهم منه التخيير.

قال البيضاويّ وهو ضعيف؛ لأنّ نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة أنه واجب يجبر بدم. وعن مالك والشافعيّ أنه ركن لقوله صلى الله عليه وسلم «اسعوا فإنّ الله تعالى كتب عليكم السعي» رواه البيهقيّ وغيره. وقال صلى الله عليه وسلم «ابدؤوا بما بدأ الله به» يعني: الصفا رواه مسلم {ومن تطوّع خيراً} أي: فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة أو طواف، ونصب خيراً على أنه صفة مصدر محذوف أي: تطوّعاً أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه أي: بخير.
وقرأ حمزة والكسائيّ يطوّع بالياء على التذكير وتشديد الطاء والواو وسكون العين وأصله يتطوّع فأدغم مثل يطوف، والباقون بالتاء على الحضور وتخفيف الطاء وفتح العين {فإنّ الله شاكر} لعمله بالإثابة عليه {عليم} بنيته.
تنبيه: الشكر من الله أن يعطى العبد فوق ما يستحقه فإنه يشكر اليسير ويعطي الكثير.
ونزل في علماء اليهود:
{إن الذين يكتمون} الناس كأحبار اليهود {ما أنزلنا من البينات} كآية الرحم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم {والهدى} أي: ما يهدي إلى وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم والإيمان به {من بعدما بيناه} أوضحناه {للناس في الكتاب} أي: التوراة أي: لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم، فعمدوا إلى ذلك المبين الواضح، فكتموه ولبسوا على الناس {أولئك يلعنهم الله} وأصل اللعن الطرد والبعد {ويلعنهم اللاعنون} أي: يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهمّ الَعنهم.

تنبيهان: أحدهما: اختلف في هؤلاء اللاعنين، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هم جميع الخلائق إلا الجنّ والإنس، وقال عطاء: هم الجنّ والإنس، وقال الحسن: هم جميع عباد الله، وقال مجاهد: البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أمسك المطر وتقول: هذا من شؤم ذنوب بني آدم.

ثانيهما: هذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة ومستنبطة وتدل على امتناع أخذ الأجرة على ذلك. وقد روى الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنكم تقولون أَكثر أبو هريرة عن النبيّ صلى

الصفحة 107