كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

الله عليه وسلم وأيم الله لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً وتلا: {إنّ الذين يكتمون} الآية» .
{إلا الذين تابوا} أي: رجعوا عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب منه {وأصلحوا} ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم {وبينوا} ما بيّنه الله تعالى في كتابهم فكتموه {فأولئك أتوب عليهم} أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم {وأنا التوّاب} أي: الرجّاع لقلوب عبادي المنصرفة عني إليّ {الرحيم} بهم بعد إقبالهم عليّ.
{إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار} أي: من لم يتب من الكاتمين حتى مات {أولئك عليهم لعنة الله و} لعنة {الملائكة و} لعنة {الناس أجمعين} لعنهم الله أحياء، ثم لعنهم أمواتاً، وقال أبو العالية: هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم تلعنه الناس.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: {والناس أجمعين} وفي الناس المسلم والكافر وأهل دينه لا يلعنونه؟ أجيب بأجوبة:
منها: أنّ المراد منهم من يعتد بلعنه وهم المؤمنون، قاله ابن مسعود: وعلى هذا فيكون من العام الذي أريد به الخاص.
ومنها: أنهم يلعنونه في القيامة قال تعالى: {يلعن بعضكم بعضاً} (العنكبوت، 25) وقال: {كلما دخلت أمّة لعنت أختها} (الأعراف، 38) .
ومنها: أنّ اللعنة من الأكثر يطلق عليها لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقلّ.
ومنها: أنهم يلعنون الظالمين والكافرين، ومن لعن الظالمين أوالكافرين وهم منهم، فقد لعن نفسه، ومعنى لعنة الله لهم تبرّؤه منهم وطردهم وتبعيدهم عن الرحمة والثواب أو دعاؤه عليهم بذلك.

{خالدين فيها} أي: اللعنة أو النار المدلول بها عليها {لا يخفف عنهم العذاب} طرفة عين {ولا هم ينظرون} من الانظار أي: لا يمهلون ولا يؤجلون أو لا ينظرون ليتعذروا كقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات، 36) أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.
ولما قال كفار قريش: يا محمد صف لنا ربك وانسبه لنا.
نزل {وإلهكم إله واحد} وسورة الإخلاص، والواحد هو الذي لا نظير له ولا شريك وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} تقرير للوحدانية ودفع؛ لأن يتوهم أنّ في الوجود إلهاً ولكن لا يستحق منهم العبادة وقوله تعالى: {الرحمن الرحيم} كالدليل على الوحدانية، فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها بقوله: الرحمن، فإنه مولى جلائل النعم وفروعها بقوله: الرحيم، فإنه مولى لطائف النعم ودقائقها وما سواه تعالى. إما نعمة أو منعم عليه، فلم يستحق العبادة أحد غيره وهما خبران آخران لقوله: إلهكم أو لمبتدأ محذوف. وعن أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وإلهكم إله واحد» إلخ.. {وا لا إله إلا هو الحيّ القيوم} .

ولما سمع المشركون هذه الآية وكان لهم حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقاً فائت بآية نعرف بها صدقك.

{إن في خلق السموات والأرض} إلى آخر الآية.
فإن قيل: لم جمع السموات وأفرد الأرض؟ أجاب البيضاويّ: بأنّ السموات طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين اه. وهذا إنما يأتي على قول بعض الحكماء أنّ المراد بالأرضين الأقاليم، والأولى ما أجاب به البغوي من أنّ كلاً منها جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب أي: فهي طبقات كالسموات، والآية في السموات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة، وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك والآية في الأرض

الصفحة 108