كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وقرأ نافع وحده بالتاء على الخطاب أي: ولو ترى يا محمد ذلك لرأيت أمراً عظيماً، وأمال السوسي الألف المنقلبة بعد الراء في الوصل بخلاف عنه، وغلظ ورش اللام بعد الظاء، وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء، والباقون بفتحها.
{إذ} بدل من إذ قبله {تبرأ الذين اتبعوا} وهم الرؤساء {من الذين اتبعوا} وهم الأتباع أي: ينكر الرؤساء إضلال الأتباع يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع {و} قد {رأوا العذاب} أي: رائين له فالواو للحال، وقد مضمرة كما قدرتها وقيل: عطف على تبرأ، وقوله تعالى: {وتقطعت} عطف على تبرأ، وقوله تعالى: {بهم} بمعنى عنهم {الأسباب} أي: الوصل التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصدقات وصارت مخالفتهم عداوة.
{وقال الذين اتبعوا} أي: الأتباع {لو أنّ لنا كرّة} أي: رجعة إلى الدنيا {فنتبرأ منهم} أي: الرؤساء {كما تبرّأوا منا} اليوم، ولو للتمني ولذلك أجيب بالفاء {كذلك} أي: مثل ذلك الإراء الفظيع {يريهم الله أعمالهم} أي: السيئة وقوله تعالى: {حسرات} أن تنقلب ندمات {عليهم} ثالث مفاعيل يرى إن كان من رؤية القلب والافحال، وقوله تعالى: {وما هم بخارجين من النار} أصله وما يخرجون؛ لأنّ المناسب أن تعطف جملة فعلية على جملة فعلية، لكن عدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى:

{يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً} فقال البيضاويّ: نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس أي: لا على وجه التورّع كما تفعله الصوفية، وما قاله قول مرجوح كما قاله شيخنا القاضي زكريا والمشهور أنها نزلت فيهم آية المائدة وهي {يأيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم} (المائدة، 87) وأمّا هذه الآية، فإنها نزلت في الكفار الذين حرموا البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ومن ثم عبر هنا بيأيها الناس وثم بيأيها الذين آمنوا.
تنبيه: حلالاً مفعول كلوا أو حال وقوله تعالى: {طيباً} إمّا صفة مؤكدة وإما طاهراً من كلّ شبهة وهو ما يستطيبه الشرع. قال «الكشاف» : ومن للتبعيض؛ لأن كلّ ما في الأرض ليس بمأكول هذا إن جعلنا حلالاً حالاً، فإن جعلنا مفعولاً فمن للابتداء كما قاله السعد التفتازاني؛ لأن من التبعيضية في موضع المفعول أي: كلوا بعض ما في الأرض {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أي: طرقه كما قاله الزجاج أو المحقرات من الذنوب كما قاله أبو عبيدة فتدخلوا في حرام أو شبهة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. وقرأ ابن عامر وقتيل وحفص والكسائي بضمّ الطاء والباقون بالسكون {إنه لكم عدوّ مبين} أي: بيّن العداوة أو مظهر العداوة عند ذوي البصيرة، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، وقد أظهر عداوته بامتناعه من السجود لآدم، ثم بيّن سبحانه وتعالى عداوته بأنه لا يأمر بخير قط بقوله:
{إنما يأمركم بالسوء} أي: القبيح شرعاً {والفحشاء} أي: ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وعن ابن عباس أنّ السوء من الذنوب ما لا حدّ فيه، والفحشاء من المعاصي ما يجب به حدّ. وقال السُديّ: الفحشاء هي الزنا وقيل: البخل.

قال البيضاوي: واستعير الأمر لتزيينه ونعته لهم تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم انتهى.
قال شيخنا القاضي زكريا: ولا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره؛ لأنّ حقيقته طلب الفعل

الصفحة 111