كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

يصيبونها من سفلتهم {أولئك ما يأكلون في بطونهم} أي: ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه {إلا النار} أي: ما يؤدّيهم إلى النار وهو الرشوة وثمن الدين، ولما كان يقضي بهم إلى النار؛ لأنها عقوبة عليهم فكأنهم أكلوا النار، وقيل: معناه أنه يصير ناراً في بطونهم {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} أي: لا يكلمهم بالرحمة ربما يبشرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ أو يكون عليهم غضبان كما يقال: فلان لا يكلم فلاناً إذا كان عليه غضبان لما ثبت بالنصوص أنه تعالى يسألهم والسؤال كلام، فحمل نفي الكلام على الغضب فهو كناية ويجوز بقاء الكلام على ظاهره وتحتمل نصوص السؤال على أنه يقع بألسنة الملائكة {ولا يزكيهم} أي: ولا يطهرهم من دنس الذنوب {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم وهو النار.I

{أولئك الذين اشتروا} أي: استبدلوا {الضلالة بالهدى} فأخذوها بدله في الدنيا {و} استبدلوا {العذاب بالمغفرة} أي: المعدّة لهم في الآخرة لو لم يكتموا الحق للمطامع والأغراض الدنيوية {فما أصبرهم على النار} أي: ما أشدّ صبرهم وهو تعجب للمؤمن من ارتكاب موجباتها من غير مبالاة وإلا فأيّ صبر لهم كما قال الحسن: والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقرّبهم إلى النار. وقال الكسائي: فما أصبرهم على عمل أهل النار أي: ما أدومهم عليه.
روي عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضي اليمن بمكة: اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال: ما أصبرك على عذاب الله تعالى.
{ذلك} أي: الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده {بأنّ} أي: بسبب أنّ {الله نزل الكتاب} وقوله تعالى: {بالحق} متعلق بنزل فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان وقوله تعالى: {وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب} اللام فيه إما للجنس واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعضها، وإما للعهد وحينئذٍ الإشارة إما للتوراة واختلافهم حيث آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها بكتمه، وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم: سحر وتقوّل وكلام علمه بشر وأساطير الأوّلين {لفي شقاق} أي: خلاف {بعيد} عن الحق واختلف في المخاطب بقوله تعالى:
{ليس البرّ} أي: وهو كلّ فعل مرضي {أن تولّوا وجوهكم} أي: في الصلاة {قبل المشرق والمغرب} على قولين: أحدهما أنهم المسلمون، والثاني أهل الكتابين، فعلى الأوّل معناه ليس البرّ كله في الصلاة ولكن البرّ ما في هذه الآية، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء. وعلى الثاني ليس البرّ صلاة اليهود إلى المغرب وصلاة النصارى إلى المشرق، فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كل طائفة أنّ البرّ هو التوجه إلى قبلته، فردّ الله تعالى عليهم وقال: ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، ولكن البر ما في هذه الآية قاله قتادة والربيع ومقاتل، وقال قوم هو عام لهم وللمسلمين أي: ليس البرّ مقصوراً بأمر القبلة. وقرأ حفص وحمزة بنصب البر على أنه خبر مقدّم، والباقون برفعه وقوله تعالى: {ولكنّ البر من آمن} على تأويل حذف المضاف أي: بر من آمن أو بتأويل البرّ بمعنى ذي البر أي: ولكن البرّ الذي ينبغي أن يهتمّ به بر من آمن أو لكن ذا البرّ من آمن {با واليوم الآخر والملائكة والكتاب} أي: الكتب إن أريد به الجنس وإلا فالقرآن {والنبيين} والتأويل الأوّل أولى؛ لأن السابق في الآية إنما هو نفي كون البر، تولية الوجه والذي يستدرك إنما هو من جنس

الصفحة 114