كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

واعتقاده وبالتقوى اعتباراً بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق وإليه أشار بقوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان» .
ونزل في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهما قتلى وجراحات يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور، فأقسموا لنقتلنّ بالعبد الحرّ منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، فرفعوا أمرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
{يأيها الذين آمنوا كتب} أي: فرض {عليكم القصاص} وهو المساواة والمماثلة {في القتلى} وصفاً وفعلاً {بالحرّ} يقتل {الحرّ} ولا يقتل بالعبد {و} يقتل {العبد بالعبد و} يقتل {الأنثى بالأنثى} وبينت السنة أنّ الذكر يقتل بالأنثى وأنّ المماثلة تعتبر في الدين فلا يقتل مسلم ولو عبداً بكافر وللأئمة في ذلك خلاف وأدلة مذكورة في الفقه وكلهم على هدى من ربهم {فمن عفي له} أي: من القاتلين {من} أي: دم {أخيه} المقتول {شيء} بأن ترك القصاص منه وتنكير شيء يفيد سقوط القصاص بالعفو عن بعضه ولو من بعض الورثة وفي ذكر أخيه تعطف على العفو وإيذان بأنّ القتل لا يقطع أخوة الإيمان ومن مبتدأ شرطية أو موصولة والخبر {فاتباع} أي: فعلى العافي اتباع للقاتل {بالمعروف} بأن يطالبه بالدية لا عنف وترتيب الاتباع على العفو يفيد أنّ الواجب أحدهما وهو أحد قولي الشافعيّ، والثاني وهو الأصح عنده الواجب القصاص عيناً، والدية بدل عنه فلو عفا ولم يسمها فلا شيء.
فإن قيل: إن عفا يتعدّى بعن لا باللام فما وجه قوله فمن عفي له أجيب: بأن عفا يتعدّى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه قال تعالى: عفا الله عنك وقال: عفا الله عنها، فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معاً قيل: عفوت لفلان عما جنى كما تقول: غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه وعلى هذا ما في الآية كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية {وأداء} أي: وعلى القاتل أداء الدية {إليه} أي: العافي وهو الوارث {بإحسان} أي: بلا مطل ولا بخس {ذلك} الحكم المذكور في العفو والدية {تخفيف من ربكم ورحمة} لما فيه من التسهيل والنفع؛ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث: القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً {فمن اعتدى} أي: ظلم القاتل بأن قتله {بعد ذلك} أي: العفو على الدية أو مجاناً {فله عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل أو أخذ الدية إن عفى عنها وقوله تعالى:
{ولكم في القصاص حياة} كلام في غاية الفصاحة والبلاغة حيث جعل الشيء محل ضدّه وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعاً من الحياة عظيماً وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. قال الزمخشريّ: وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة ويقع بينهم التشاجر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لأنّ القاصد للقتل؛ إذا علم أنه إن قتل يقتل يمتنع فيكون فيه بقاؤه وبقاء من

الصفحة 116