كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

عنهما إنّ الله تعالى حيّ كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول، فالرفث إنما عني به الجماع، وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء، قال أهل التفسير: كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حلّ له الطعام والشراب والنساء إلى أوان العشاء الآخرة، أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة، ثم إنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسوّلت لي نفسي، فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما كنت جديراً بذلك يا عمر» فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه هذه الآية، وفي تجويز المباشرة في جميع الليل دليل على جواز تأخير الغسل إلى الفجر وصحة صوم الصبح جنباً.
{هن لباس} أي: سكن {لكم وأنتم لباس} أي: سكن {لهنّ} كما قال تعالى: {وجعل منها زوجها ليسكنإليها} (الأعراف، 189) وكما قيل: لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وقيل: سمي كل واحد من الزوجين لباساً؛ لتجرّدهما عند النوم وتعانقهما واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد من الزوجين لصاحبه كالثوب الذي يلبسه. قال الجعدي:
*إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا*
والضجيع: المضاجع، وما زائدة، وثنى عطفها: أمال شقها، وتثنت مالت، والشاهد في قوله: فكانت عليه لباساً وقيل: إنّ كلاً منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور، كما جاء في الخبر: «من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه.
{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} أي: تظلمونها بتعريضها للعقاب، وتنقيص حظها من الثواب بالمجامعة بعد العشاء كما وقع ذلك لعمر وغيره، وقال البراء: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله هذه الآية.
{فتاب عليكم} أي: قبل توبتكم {وعفا عنكم} أي: محا ذنوبكم، ولم يمل أحد ألف عفا لأنه واوي {فالآن} أي إذا نسخ عنكم التحريم {باشروهن} أي: جامعوهنّ حلالاً، وسمى المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهما بصاحبه {وابتغوا} أي: واطلبوا {ما كتب الله لكم} أي: ما قسم لكم، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي: لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل، أو قصد العفة، وقال مجاهد: ابتغوا الولد فإن لم تلد هذه فهذه، وقال مقاتل: وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع. في اللوح المحفوظ، وقيل: وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم وقيل: هو نهي عن العزل لأنه في الحرائر.
فقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} أي: الصادق، نزل في رجل من الأنصار، قال عكرمة: اسمه أبو قيس، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، فقال لامرأته: قدّمي الطعام وأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً، سخناً فأخذت تعمل له في شيء وكان في ابتداء الإسلام

الصفحة 123