كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

من صلى العشاء أو نام قبلها حرم عليه الطعام والشراب، فلما فرغت من طعامه إذ هو قد نام وكان قد أعيا وكلّ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل، فأصبح صائماً مجهوداً فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «يا أبا قيس مالك أمسيت طليحاً، فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية» .

وقد شبّه سبحانه وتعالى أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وما يمتدّ معه من غبش الليل بخيطين أبيض وأسود، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله: من الفجر عن بيان الخيط الأسود؛ لدلالته عليه ويصح أن تكون من للتبعيض، فإنما يبدو بعض الفجر، وعلى كل منهما فهي مع مدخولها في محل الحال، والمعنى على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضاً من الفجر وعلى البيان حال كونه هو الفجر.
فإن قيل: كيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان حتى قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أقوم من الليل فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، فلما أصبحت غدوت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال: «إن كان وسادك إذاً لعريضاً» وروي: «إنك لعريض القفا إنما ذاك بياض النهار من الليل» أجيب: بأنه غفل عن البيان ولذلك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه؛ لأنه مما يستدل به على بلادة الرجل وقلة فطنته، وقال سهل بن سعد الساعدي نزلت ولم ينزل من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله تعالى بعد ذلك من الفجر.
فإن قيل: كيف جاز فعل ذلك في رمضان مع تأخير البيان وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد؟ أجيب: بأنّ ذلك كان قبل دخول رمضان، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز، واكتفى أوّلاً باشتهارهما في ذلك، ثم صرح بالبيان لمَّا التبس على بعضهم. {ثم أتموا الصيام} من الفجر {إلى الليل} أي: إلى دخوله بغروب الشمس، كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم» أي: دخل وقت إفطاره.
تنبيه: إنما قدّرت في الآية الكريمة من الفجر ليدل على عدم جواز النية في النهار في صوم رمضان كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه؛ ولأنّ إلى يكون المغيا بها ينقضي شيئاً فشيئاً، والإتمام فعل الجزء الأخير فقط، وهو ينقضي كذلك، وفي الآية دليل على نفي الوصال؛ لأنه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء منتهاه، وما بعدها يخالف ما قبلها. {ولا تباشروهنّ} أي: نساءكم {وأنتم عاكفون} أي: مقيمون {في المساجد} بنية الاعتكاف، والمراد بالمباشرة الوطء، والآية نزلت في نفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها، ثم اغتسل ثم يرجع إلى المسجد، فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم، وفيه دليل على أنّ الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد، وأن يكون في المسجد لا في غيره؛ إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطاً في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها، وإن كان خارج المسجد ويمنع غيره أيضاً منها

الصفحة 124