كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

نزلت هذه الآية، أي: هذا الشهر بذلك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به.
وقوله تعالى: {والحرمات قصاص} احتجاج عليه أي: كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص، وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، أي: فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليه عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، أي: كما قال تعالى: {فمن اعتدى عليكم} بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} سمي الجزاء باسم الاعتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40) .
{واتقوا الله} في الانتصار لأنفسكم منهم، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم {واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصر فيحرسهم ويصلح شأنهم.

{وأنفقوا في سبيل الله} أي: طاعته سواء الجهاد وغيره {ولا تلقوا بأيديكم} أي: بأنفسكم، عبر بالأيدي عن الأنفس كقوله تعالى: {بما كسبت أيديكم} (الشورى، 30) أي: بما كسبتم والباء زائدة {إلى التهلكة} أي: الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو الإسراف فيها، حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن ترك الزور الذي هو تقوية للعدوّ.

روي أنّ رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري: نحن أعلم بهذه الآية، وإنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهلنا وأولادنا وأموالنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها رجعنا إلى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية، فتوفي هناك ودفن في أصل سورها وهم يستسقون به.
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني: الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله، تعالى قال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليست لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك كما قال تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف، 87) {وأحسنوا} أي: بالنفقة وغيرها {إنّ الله يحب المحسنين} أي: يثيبهم.

{وأتموا الحج والعمرة} أي: أدوهما بحقوقهما. وفي الآية حينئذٍ دليل على وجوبهما، إذ الأصل في الأمر الوجوب وما روي عن جابر أنه قال: «يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال: لا» معارض بما روي أن رجلاً قال لعمر رضي الله تعالى عنه: إني وجدت أي: علمت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً، فقال: هديت لسنة نبيك، ولا يقال إنه فسر وجدانهما مكتوبين بقوله: أهللت بهما؛ لأنه رتب الإهلال بهما على الوجدان، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس وقيل: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، روي ذلك عن عليّ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وقيل: إن تفرد لكل واحد منهما سفراً، وقيل: أن تكون النفقة حلالاً وقيل: أن تخلصهما للعبادة ولا تشوبهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية.
{فإن أحصرتم} أي: منعتم عن إتمامهما يقال: حصره وأحصره العدوّ إذا منعه قال

الصفحة 128