كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

والرفقة وغيرهما {في الحج} أي: في أيامه، فنفى الثلاث على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون وما كان منها مستقبحاً في نفسه، ففي الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب بقراءة القرآن، وهو مدّ الصوت وتحسينه بحيث يخرج الحروف عن هيأتها، فإنه يقبح في كل كلام لكنه في قراءة القرآن أقبح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الثاء من رفث والقاف من فسوق، والتنوين فيهما على معنى لا يكون رفث ولا فسوق والباقون بنصبهما ولا خلاف في {ولا جدال} فالجميع بالنصب ولا تنوين على معنى الإخبار، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج، وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج، واستدل على أنّ المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه» فإنه لم يذكر الجدال {وما تفعلوا من خير} كصدقة {يعلمه الله} فيه حث على الخير حيث عقب به النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق: البر والتقوى، ومكان الجدال: الوفاق والأخلاق الجميلة {وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى} أي: وتزوّدوا امعادكم التقوى فإنها خير زاد، روى البخاري وغيره أنّ أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون: نحن متوكلون، ونحن نحج بيت الله تعالى أفلا يطعمنا فيكونون كلاً على الناس فيسألونهم، وربما يفضي الحال بهم إلى النهب والغصب، فقال الله جل ذكره: {وتزوّدوا} أي: ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم، قال أهل التفسير: الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها، {فإن
خير الزاد التقوى} أي: ما يتقي به سؤال الناس وغيره.
{واتقون يا أولي الألباب} أي: يا ذوي العقول فإن قضية اللب خشية الله تعالى وتقواه وحثهم على التقوى، ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه، وهو مقتضى العقل العريّ عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب.

{س2ش198/ش200 لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا? فَضْ? مِّن رَّبِّكُمْ? فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا? اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ? وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ? لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا? مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا? اللَّهَ? إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا? اللَّهَ كَذِكْرِكُمْءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا? فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ? فِى ا?خِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}
{ليس عليكم جناح} في {أن تبتغوا} أي: تطلبوا {فضلاً} أي: رزقاً {من ربكم} بالتجارة، في الحج نزلت ردعاً لناس من العرب كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج، وإذا دخل العشر كفّوا عن البيع والشراء، فلم تقم لهم سوق، ويسمون من يخرج بالتجارة: الداج ويقولون: هؤلاء الداج وليسوا بالحاج.
وروى البخاري: أنه كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية، يتجرون فيها في أيام الموسم، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال: وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج. وعكاظ سوق لقيس ومجنة وهي بفتح الميم أشهر من كسرها وبفتح الجيم وتشديد النون سوق لكنانة بمرّ الظهران وذو المجاز وهو بفتح الميم وبالزاي سوق لهذيل.
{فإذا أفضتم} دفعتم {من عرفات} وأصله أفضتم أنفسكم، فحذف المفعول كما حذفوه من دفعوا من موضع كذا، أي: دفعوا أنفسهم، واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات واليوم عرفة، فقال عطاء: كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم

الصفحة 131