كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

عليه ابن مالك، وإن كان مذهب البصريين خلافه، وجرى عليه البيضاوي.
{والفتنة} أي: الشرك منكم {أكبر من القتل} لكم فيه، فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة، ومنعهم المسلمين عن البيت.
{ولا يزالون} أي: الكفار {يقاتلونكم} أيها المؤمنون {حتى يردّوكم عن دينكم} إلى الكفر، في ذلك إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم، وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم، وحتى للتعليل لا للغاية كما قيل؛ لأنه أفيد من حيث أنّ فيه ذكر الحامل على المقاتلة بخلاف الغاية أي: يقاتلونكم كي يردّوكم وقوله تعالى: {إن استطاعوا} فيه استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوّه: إن ظفرت بي فلا تبق عليّ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت} أي: بطلت {أعمالهم} أي: الصالحة {في الدنيا والآخرة} فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها، والتقييد بالموت يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام لم يبطل عمله كما هو مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، خلافاً لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، حيث قال: إنّ الردّة تحبط الأعمال مطلقاً لقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} (المائدة، 5) وأجيب: بأنه محمول على المقيد عملاً بالدليل، فلا يجب عليه أن يعيد الحج الذي أتى به قبل الردّة كذا غيره، لكن يبطل ثوابه كما نص عليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وإن خالف فيه بعض المتأخرين {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} كسائر الكفرة.
ولما ظنّ السرية أنهم إن سلموا من الإثم فلا يحصل لهم أجر أنزل الله تعالى.

أي: فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم {وجاهدوا} المشركين {في سبيل الله} لإعلاء دينه، وكرّر سبحانه وتعالى الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد، وكأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء {أولئك يرجون رحمة الله} أي: ثوابه أثبت لهم الرجاء إشعاراً بأنّ العمل غير موجب، ولا قاطع في الدلالة، سيما والعبرة بالخواتيم {وا غفور} للمؤمنين لما فعلوه خطأ وقلة احتياط {رحيم} بهم بأن يجزل لهم الأجر والثواب.
{يسئلونك عن الخمر والميسر} . روي أنه لما نزل بمكة قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} (النحل، 67) كان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذٍ، ثم إنّ عمر ومعاذاً في نفر من الصحابة قالوا: «أفتنا في الخمر يا رسول الله فإنها مذهبة للعقل» فنزلت هذه الآية، فشربها قوم وتركها آخرون، ثم إنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً، فدعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا، فحضرت صلاة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ: قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون، هكذا إلى آخر السورة بحذف لا فأنزل الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء، 403) فحرم السكر في أوقات الصلاة فتركها قوم وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة، وتركها قوم في أوقات الصلاة وشربوها في غير وقتها، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر، ثم إنّ عتبان بن مالك صنع طعاماً ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص رضي الله

الصفحة 141