كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

حرة مشركة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} أي: ولا تزوّجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا، وهذا على عمومه بإجماع {ولعبد مؤمن خير من} أي: حرّ {مشرك ولو أعجبكم} لماله وجماله وقيل: المراد بالأمة والعبد المرأة والرجل، حرّين كانا أو رقيقين؛ لأنّ الناس عبيد الله وإماؤه {أولئك} أي: أهل الشرك {يدعون إلى النار} أي: إلى الكفر المؤدّي إلى النار، فلا تليق مصاهرتهم وموالاتهم {وا يدعو} أي: أولياءه المؤمنون، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، تفخيماً لشأنهم، أو يدعو على لسان رسله، وهذا كما قال أبو حيان: أبلغ في التباعد من المشركين إجراءً للفظ على ظاهره، والأوّل ذكر لطلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين {إلى الجنة والمغفرة} أي: العمل الصالح الموصل إليها، فهم الأحقاء بالمواصلة {بإذنه} أي: بأمر الله ورضاه على التفسير الأول، أو بقضائه وإرادته على التفسير الثاني فتجب إجابته بتزويج أوليائه {ويبين} أي: الله {آياته للناس لعلهم يتذكرون} أي: لكي يتذكروا فيتعظوا.F
{ويسئلونك} يا محمد {عن المحيض} أي: الحيض أو مكانه ماذا يفعل بالنساء فيه.
روي أن أهل الجاهلية كانوا لم يساكنوا الحيض ولم يؤاكلوهنّ كفعل اليهود، فإنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، واستمرّ ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الله تعالى: {قل} لهم {هو} أي: الحيض أو مكانه {أذى} قذر أو محله قذر.
فإن قيل: لماذا ذكر الله تعالى يسئلونك بغير واو ثلاثاً ثم بها ثلاثاً؟ أجيب: بأنّ السؤالات الأول كانت في أوقات متفرّقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد، فلذلك ذكرها بحرف الجمع، وهو واو العطف، وهي الجمع في الحكم لا الزمان، واعترض هذا الجواب بأنه كان يجب على هذا أن تدخل الواو على اثنين من الثلاثة الأخيرة؛ لأنّ العطف يكون في الثانية والثالثة منها، وأجيب: بأنهم لما سألوا عما كانوا ينفقون، فأجيبوا بمصرف النفقة أعادوا سؤالهم بالواو ما ينفقون، فأجيبوا: بالعفو، ولما كان السؤال الثاني عن مخالطة اليتامى في النفقة، وهو مناسب لما قبله عطف بالواو، ولما كان الثالث سؤالاً عن اعتزال الحيض كما تعتزل اليتامى فناسب ما قبله في الاعتزال عطف بالواو، ولا كذلك الثلاثة الأول؛ إذ لا تعلق بينها.

{فاعتزلوا النساء} أي: اتركوا وطأهنّ {في المحيض} أي: وقته أو مكانه؛ لأنّ ذلك هو الاقتصاد بين إفراط اليهود، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض، وما استدلّ به البيضاوي من قوله صلى الله عليه وسلم «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم نأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم» قال شيخنا القاضي زكريا: لم أره بهذا اللفظ في بعض التفاسير لغيره.
وقوله تعالى: {ولا تقربوهنّ} أي: بالجماع {حتى يطهرن} تأكيد للحكم وبيان لغايته، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع، ويدل عليه صريحاً قراءة شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء أي: يتطهرن بمعنى يغتسلن والباقون بسكون الطاء وضمّ الهاء مخففة والتزاماً.
قوله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهنّ} أي: للجماع فإنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إن طهرت لأكثر الحيض وهو

الصفحة 144