كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ} أي: انقضت عدّتهنّ {فلا تعضلوهنّ} أي: تمتعوهنّ من {أن ينكحن أزواجهنّ} أي: المطلقين لهنّ. وعن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه دل سياق الكلامين أي: وهما أمسكوهنّ إلخ.. و «فلا تعضلوهنّ» على افتراق البلوغين، فالمراد بالأوّل المقاربة، وبالثاني الوصول كما تقرّر، والعضل الحبس والتضييق، ومن العضل بهذا المعنى عضلت الدجاجة إذا علقت بيضتها فلم تخرج.
فائدة: رسمت التاء في نعمت بالتاء المجرورة، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء، ويميلها الكسائيّ في الوقف، ووقف الباقون بالتاء على الرسم والمخاطب بذلك الأولياء لما روي أنه نزلت في معقل بن يسار، حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل، ففي الآية دليل على أنّ المرأة لا تزوّج نفسها، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الوليّ فائدة، ولا يعارض ذلك بإسناد النكاح إليهنّ؛ لأنه إنما أسند إليهن لتوقف النكاح على إذنهنّ، وقبل الخطاب للأولياء والأزواج، وقيل: للناس كلهم أي: لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر، فإنه إن وجد بينهم وهم راضون به كانوا كالفاعلين.
له وقوله تعالى: {إذا تراضوا بينهم} أي: الأزواج والنساء ظرف؛ لأن ينكحن أو لا تعضلوهنّ وقوله تعالى: {بالمعروف} أي: بما يعرفه الشرع ويستحسنه من كونه بعقد حلال حال من ضمير تراضوا، أو صفة مصدر محذوف أي: تراضياً كائناً بالمعروف وفيه دلالة على أنّ العضل عن التزوج من غير كف غير منهي عنه {ذلك} أي: النهي عن العضل {يوعظ به من كان منكم يؤمن با واليوم الآخر} لأنه المتعظ أو المنتفع به.
فإن قيل: لمن الخطاب في قوله: {ذلك يوعظ به} ؟ أجيب: بأنه يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد كما في قوله تعالى: {يأيها النبيّ إذا طلقتم النساء} (الطلاق، 1) ونحوه {ذلكم} أي: ترك العضل {أزكى} أي: أنفع {لكم وأطهر} لكم ولهنّ من دنس الآثام لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما {وا يعلم} ما فيه المصلحة {وأنتم لا تعلمون} ذلك لقصور علمكم، وقوله تعالى:

{والوالدات يرضعن أولادهنّ} خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ} وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب، لأنه لا يجب عليهنّ الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد، لقوله تعالى في سورة الطلاق: {فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ} فإن رغبت الأمّ في الإرضاع فهي أولى من غيرها، أمّا إذا لم يوجد من يرضعه فيجب عليها إرضاعه، والوالدات يعمّ المطلقات وغيرهنّ وقيل: يختص بالمطلقات إذ الكلام فيهنّ {حولين} أي: عامين {كاملين} صفة مؤكدة كما في قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} (البقرة، 196) لأنّ العرب قد تسمي بعض الحول حولاً، وبعض الشهر شهراً، كما قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات} (البقرة، 197) وإنما هو شهران وبعض الثالث وقال تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} (البقرة، 203) وإنما يتعجل في يوم وبعض يوم.

وقال قتادة: فرض الله على الوالدات إرضاع حولين كاملين ثم أنزل التخفيف فقال: {لمن أرد أن يتم الرضاعة} أي: هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك حدّ محدود، إنما هو على مقدار إصلاح المولود وما يعيش به.
{وعلى المولود له} أي: الوالد {رزقهنّ} أي: إطعام الوالدات {وكسوتهنّ} أجرة لهنّ على الإرضاع إذا كنّ مطلقات، واختلف في استئجار الأم للإرضاع فجوّزه الشافعيّ ومنعه أبو حنيفة ما دامت زوجة أو معتدّة نكاح.

الصفحة 151