كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

موتهم الواجب عليهنّ تربصه، وقوله تعالى: {غير إخراج} نصب على الحال أي غير مخرجات من مسكنهنّ. نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف، يقال له الحكم بن الحارث، هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته، فمات فأنزل الله هذه الآية، «فأعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً» ، وكانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة، ما لم تخرج ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ففسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدّة الحول بآية {أربعة أشهر وعشراً} السابقة.
فإن قيل: كيف نسخت الآية السابقة المتأخرة؟ أجيب: بأنها متقدّمة في التلاوة متأخرة في النزول كما في قوله تعالى: {سيقول السفهاء} (البقرة، 142) مع قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} (البقرة، 144) {فإن خرجن} من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة {فلا جناح عليكم} يا أولياء الميت {فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف} شرعاً كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها، خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى، إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشراً {وا عزيز} في ملكه {حكيم} في صنعه لا يسئل عما يفعل.
{وللمطلقات متاع} أي: يعطينه {بالمعروف} بقدر الإمكان وقوله تعالى: {حقاً} نصب بفعله المقدّر {على المتقين} الله.
فإن قيل: لم كرر الله تعالى ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك لحكمة، وهي أن الآية السابقة في غير الممسوسة وهذه أعم منها، فتشمل الممسوسة أيضاً.
{كذلك} أي: كما بيّن لكم ما سبق من أحكام الطلاق والعدد {يبيّن الله لكم آياته} وعد سبحانه وتعالى أنه سيبيّن لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً، {لعلكم تعقلون} أي: تتدبرون فتستعملون العقل فيها وقوله تعالى:
{ألم تر} استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده، لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ، وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع، وهذا هنا أولى، فإنه صار مثلاً في التعجيب، أي: ينته علمك {إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف} أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفاً، وقوله تعالى: {حذر الموت} مفعول له، هم قوم من بني إسرائيل كانوا في قرية يقال لها: داوردان، جهة واسط وقع بها الطاعون، فخرجت، طائفة منها وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية، وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانياً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عنها أهلها، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً، ثم أحياهم الله تعالى كما قال تعالى: {فقال لهم الله موتوا} أي: فماتوا {ثم أحياهم} ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله وقدره. وقيل: قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، ففروا حذر الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام أو أكثر،

الصفحة 157