كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

ثم أحياهم بدعاء نبيهم حِزْقِيل ـ بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي ـ ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى، وكان يقال له ابن العجوز؛ لأنّ أمّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها.
قال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل، وسمي حزقيل ذا الكفل؛ لأنه كفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل، قال: اذهبوا فإني إن قتلت كان خيراً من أن تقتلوا معي جميعاً، فلما جاء اليهود وسألوا حِزْقِيل عن الأنبياء السبعين، قال لهم: ذهبوا وما أدري أين هم، ومنع الله حِزْقِيلَ من اليهود، فلما مر حِزْقِيل على تلك الموتى وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم فبكى، وقال: يا رب كنت في قوم يحمدونك، ويسبحونك، ويقدّمونك، ويكبرونك، ويهللونك، فبقيت وحدي لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه أن ناد: أيتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه، حتى التزق بعضها ببعض، كل عظم جسد التزق بجسده، فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم، ثم أوحى الله تعالى إليه: أن ناد أيتها الأجسام إنّ الله يأمرك أن تكسي لحماً، فاكتست لحماً، ثم أوحى الله إليه أن ناد: أيتها الأجساد إنّ الله يأمرك أن تقومي فبعثوا أحياء ورجعوا إلى بلادهم.

وقال مجاهد: إنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن حتى ماتوا لآجالهم، التي كتبت لهم، ولو جاءت آجالهم ما بعثوا، واستمرّ ذلك في أسباطهم، قال ابن عباس: وأثر ذلك ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود.
وفائدة هذه القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء فإنّ الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى {إنّ الله لذو فضل على الناس} أي: عامّة فليذكر كل أحد ماله عليه من الفضل {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} كما ينبغي أمّا الكفار فلم يشكروا، وأمّا المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره.
تنبيه: إنما كرّر الناس، ولم يضمر ليكون أنصّ على العموم لئلا يدّعي مدع أنّ المراد بالناس الأوّل أهل زمان فيخص بالثاني أكثرهم.
{وقاتلوا في سبيل الله} أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا {واعلموا أنّ الله سميع} لأقوالكم فيسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون {عليم} بأحوالكم فيعلم ما تضمرونه فيجازيكم.
{من ذا الذي يقرض الله} الذي تفرد بالعظمة بإنفاق ماله في سبيل الله ومن استفهامية مرفوعة، الموضع بالابتداء، وذا خبره، والذي: صفة ذا أو بدل، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه، فهو اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعد لهم من الثواب قرضاً؛ لأنهم يعملون لطلب ثوابه، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي القرض به؛ لأنه يقطع من ماله شيئاً يعطيه ليرجع إليه مثله وقيل: في الآية اختصار، معناه: من ذا الذي يقرض عباد الله المحتاجين من خلقه كقوله تعالى: {إنّ الذين يؤذون الله} (الأحزاب، 57) أي: عباد الله كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله يقول يوم القيامة: ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟» {قرضاً حسناً} أي: جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية، وقيل: لا يمنّ به ولا يؤذي. ولما كانت النفس مجبولة على الشح بما عندها إلا لفائدة رغبّها سبحانه وتعالى في ذلك بقوله: {فيضاعفه} أي: جزاءه {له} في الدنيا والآخرة، وأوّل هذه المضاعفة أنّ الزائد ضعف ليس كسراً، «كان صلى الله عليه وسلم لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة وقال: خياركم أحسنكم قضاء» ، وقد أنبأ سبحانه وتعالى أن اقتراضه بما هو فوق ذلك، لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله بقوله: {أضعافاً كثيرة} (البقرة، 545) من عشر إلى أكثر من سبعمائة كما سيأتي. روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح الأنصاري: «يا رسول الله إنّ الله ليريد منا القرض قال: نعم يا
أبا الدحداح قال: أرني يدك يا رسول الله فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وحائطه فيه ستمائة نخلة وأمّ الدحداح فيه وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أمّ الدحداح قالت: لبيك قال: اخرجي فقد أقرضت ربي عز وجل» .

وقرأ ابن عامر وعاصم فيضاعفه بنصب الفاء على جواب الاستفهام حملاً على المعنى، فإنّ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً في معنى أيقرض الله أحد، والباقون برفعها، وأسقط الألف وشدّد العين ابن كثير وابن عامر، والباقون بإثبات الألف وتخفيف العين، ولما رغّب سبحانه وتعالى في إقراضه، أتبعه جملة خالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال: {وا يقبض} أي: يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء {ويبسط} أي: يوسعه لمن يشاء امتحاناً، بحسب ما اقتضته حكمته سبحانه وتعالى، وقرأ قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة وبالسين، بخلاف عن ابن ذكوان وخلاد، والباقون بالصاد والرسم بالصاد {وإليه ترجعون} أي: فيجازيكم على ما قدّمتم.
{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} أي: إلى قصتهم، والملأ من القوم أشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط، والإبل، والخيل والجيش، ومن للتبعيض {من بعد} موت {موسى} ومن للابتداء {إذ قالوا لنبيّ لهم} أكثر المفسرين على أنه شمويل، قال مقاتل: هو من نسل هرون، وقيل: هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل: هو شمعون، وإنما سمي بذلك؛ لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب دعاءها فسمته شمعون تقول: سمع الله دعائي والسين تصير شيناً بالعبرانية وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم، ذلك أنه لما مات موسى عليه الصلاة والسلام وخلف، في بني إسرائيل الخلوف وعظمت الخطايا سلّط الله عليهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم، وسَبَوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً كثيراً وشدّة، ولم يكن لهم حينئذٍ نبيّ يدبر أمرهم، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته شمعون، تقول: سمع الله دعائي فكبر الغلام فأسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس، فكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل، فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبياً، فلما أتاهم

الصفحة 158