كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

يسير معه حيث سار، وخص عيسى صلى الله عليه وسلم باسمه لإفراط اليهود في تحقيره، والنصارى في تعظيمه حيث قالوا: هو ابن الله وأبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {بعضهم} حيث لم يقل ورفع محمداً صلى الله عليه وسلم لما في الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول أحدكم أو بعضكم، يراد به الذي تعورف واشتهر، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره.
{ولو شاء الله} أي: الذي له جميع الأمر، هدى الناس جميعاً باتفاقهم على دين واحد {ما اقتتل الذين من بعدهم} أي: بعد الرسل أي: ما اقتتلت أممهم {من بعد ما جاءتهم البينات} أي: المعجزات الواضحات على أيدي رسلهم؛ لاختلافهم في الدين وتضليل بعضهم بعضاً {ولكن اختلفوا} لمشيئته تعالى ذلك {فمنهم} أي: فتسبب عن اختلافهم إن كان منهم {من آمن} أي: ثبت على إيمانه {ومنهم من كفر} كالنصارى بعد المسيح.
ولما كان من الناس من أعمى الله قلبه فنسب أفعال المختارين من الخلق إليهم استقلالاً، قال الله تعالى معلّماً: أنّ الكل بخلقه تأكيداً لما مضى من ذلك ومعيداً ذكر الاسم الأعظم: {ولو شاء الله ما اقتتلوا} بعد اختلافهم بالإيمان والكفر {ولكنّ الله يفعل ما يريد} فيوفق من يشاء فضلاً منه، ويخذل من يشاء عدلاً منه، والآية دليل على أنّ الأنبياء متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولكن بنصّ لأنّ اعتبار الظنّ فيما يتعلق بالعمل لا بالاعتقاد، وأن الحوادث بيد الله لقوله تعالى: {يفعل ما يريد} تابعة لمشيئته تعالى خيراً كان أو شرّاً إيماناً أو كفراً.
ولما كان الاختلاف على الأنبياء سبباً للجهاد، الذي هو حظيرة الدين وكان عماد الجهاد النفقة أتبع ذلك قوله رجوعاً إلى أوّل السورة من هنا إلى آخرها، وأتى التأكيد بلفظ الأمر لما تقدّم الحثّ عليه من أمر النفقة.
{يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} أي: مما أوجبت عليكم إنفاقه من الزكاة، قاله السديّ وقال غيره أراد به صدقة التطوّع والنفقة في الخير، أي: فلا تبخلوا بالإنفاق فإنه لا داء أدوأ من البخل. قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر، 9) (التغابن، 16) وصرف الأمر بالتبعيض إلى الحلال الطيب يمنع احتجاج المعتزلة بها، في أنّ الرزق لا يكون إلا حلالاً، لكونه مأموراً به.
وأتبعه بما يرغب ويرهب من حلول يوم التناد الذي تنقطع فيه الأسباب التي أقامها سبحانه وتعالى في هذه الدار فقال: {من قبل أن يأتي يوم} موصوف بأنه {لا بيع فيه} أي: فداء {ولا خلّة} أي: صداقة تنفع {ولا شفاعة} بغير إذنه والمعنى أنه لا يفدى فيه أسير بمال ولا يراعي الصداقة من مساو، ولا الشفاعة من كبير، لعدم إرادة الله تعالى لشيء من ذلك ولا يكون إلا ما يريد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنصب في بيع وخلة وشفاعة، ولا تنوين على الأصل، والباقون بالرفع والتنوين على أنها في تقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة.
ولما حثّ سبحانه وتعالى على الإنفاق ختم الآية بذمّ الكافرين، بكونهم لم يتحلوا بهذه الصفة، لتخليصهم من الإيمان وبعدهم منه وتكذيبهم بذلك اليوم، فهم لا ينفقون لخوفه وإرهابه فقال بدل ولا نصرة لكافر {والكافرون} أي: المعلوم

الصفحة 167