كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

فجمع الجبار جموعه، فأمر الله تعالى الملك، ففتح عليه باباً من البعوض فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام ونمروذ كما هو لم يصبه من ذلك شيء فبعث الله عليه بعوضة فدخلت، في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه، ثم ضرب بهما رأسه، وكان جباراً أربعمائة سنة فعذبه الله تعالى أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله، وهو الذي بنى صرحاً طويلاً ليصعد منه إلى السماء ليقاتل أهلها فأرسل الله تعالى عليه الريح فهدمته، وستأتي قصته في غافر إن شاء الله تعالى {وا لا يهدي القوم الظالمين} بالكفر إلى محجة الاحتجاج.
{أو كالذي مرّ على قرية} فيه حذف تقديره أوَ رأيت مثل الذي، فحذف لدلالة ألم تر عليه، لأن كلتيهما كلمة تعجب، وتخصيصه بحرف التشبيه، لأنّ المنكرين للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى، بخلاف مدّعي الربوبية وقيل: الكاف مزيدة، وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو إلى الذي مرّ، والمار عزير بن شرحيا أو الخضر أو الكافر بالبعث، ويؤيد هذا نظمه مع نمروذ في سلك وكلمة الاستبعاد التي هي. أنّى يحيي، وأكثر المفسرين على الأوّل والقرية بيت المقدس حين خربها بختنصر وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً فيقذفه في بيت المقدس، ففعلوا حتى ملؤوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق، فثلثاً قتلهم، وثلثاً سباهم وثلثاً أقرهم بالشأم وقيل: هي القرية التي خرج منها الألوف وقيل غيرهما {وهي خاوية} أي: ساقطة {على عروشها} أي: سقوفها بأن سقط السقف أولاً ثم سقطت الجدران عليه، لما أخربها بختنصر {قال أنى} أي: كيف {يحيي هذه الله بعد موتها} أي: بما صارت إليه من الخراب وذهاب الأهل، فيعيدها إلى ما كانت عليه عامرة آهلة، وهذا اعتراف بالعجز من معرفة طريق الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي، إن كان القائل مؤمناً واستبعاد إن كان كافراً.
{فأماته الله} وألبثه {مائة عام} ميتاً {ثم بعثه} بالإحياء ليريه كيفية ذلك {قال كم لبثت} أي: مكثت أي: لما أحياه الله بعث إليه ملكاً فسأله كم لبثت؟ وعن ابن عباس أن عزيراً كان عبداً صالحاً حكيماً خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف انتهى إلى خربة حين قامت الظهيرة فأصابه الحرّ، فدخل الخربة وهو على حمار له فنزل عن حماره ومعه سلّة فيها تين وسلة فيها عنب، فنزل في ظلّ تلك الخربة وأخرج قصعة كانت معه، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في تلك القصعة في العصر ليبتل فيأكله، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي ساقطة على عروشها ورأى عظاماً بالية فقال: {أنى يحيى هذه الله بعد موتها} فلم يشك أنّ الله يحييها ولكن قالها تعجباً، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه فأماته الله مائة عام، فلما أتت عليه مائة عام، وكان فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل به وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى، ثم ركّب خلقه وهو ينظر ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك يرى

الصفحة 172