كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وتضرب الأرض بقوائمها ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون؛ لأنه كالضرب على غير استواء في الإدهاش {ذلك} أي: الذي نزل بهم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قالوا إنما البيع مثل الربوا} في الجواز.
فإن قيل: ما الحكمة في قلب القصة ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأنّ حل البيع متفق عليه وهم أرادوا قياس الربا عليه فكان نظم الكلام أن يقال إنما الربا مثل البيع؟ أجيب: بأنّ هذا من عكس التشبيه مبالغة إذ به صار المشبه مشبهاً به وبالعكس وشأن المشبه به أن يكون أقوى من المشبه أو بأنهم لم يكن مقصودهم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أنّ البيع والربا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والآخر بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز وقوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرّم الربوا} إنكار لتسويتهم وإبطال القياس لمعارضته النص.
تنبيه: أظهر قولي الشافعيّ أنّ هذه الآية عامّة في كل بيع إلا ما خص بالسنة وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع، والثاني إنها مجملة والسنة مبينة لها أو تظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف فعلى الأوّل يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل {فمن جاءه} أي: بلغه {موعظة} أي: وعظ {من ربه} وزجر بالنهي عن الربا {فانتهى} أي: فاتبع النهي وامتنع من أكله {فله ما سلف} أي: ما مضى قبل النهي فلا يستردّ منه ما أخذه من الربا وقيل: ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له {وأمره إلى الله} بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الإنتهاء وإن شاء خذله حتى يعود. وقيل: أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس له من أمر نفسه شيء {ومن عاد} إلى تحليل الربا مشبهاً له بالبيع في الحل {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} لأنهم كفروا بذلك وورد أنه صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله والواشمة والمستوشمة والمصوّر وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «الربا سبعون باباً أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمّه» .
{يمحق الله الربوا} أي: يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود الربا وإن كثر فإلى قل {ويربي الصدقات} أي: يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه.

روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم فلوه» .
وروى الإمام أحمد: «ما نقص مال من صدقة» {وا لا يحب كل كفار} أي: مصرّ على تحليل المحرّمات كمن يحلّل الربا {أثيم} منهمك في ارتكابه.
{إنّ الذين آمنوا} بالله وبرسوله ربما جاء لهم عنه {وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} وإنما عطفهما على ما يعمهما لشرفهما {لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم} من آت {ولا هم يحزنون} على فائت وتقدّم مثل هذه الآية ولكن جرت عادة الله سبحانه وتعالى في القرآن مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً، فلما بالغ هنا في وعيد الربا أتبعه بهذا الوعد.
فإن قيل: إن الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه مات فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدل على أن استحقاق الثواب لا يتوقف على حصول العمل أجيب: بأنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل

الصفحة 184