كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

منهما أثراً في جلب الثواب كما قال تعالى في ضد هذا {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} (الفرقان، 68) ثم قال تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} ومعلوم أنّ من ادعى أنّ مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر وإنما جمع الله تعالى الزنا وقتل النفس مع دعاء غير الله تعالى إلهاً لبيان أنّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا} أي: اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا الذي أخذتم بعضه قبل التحريم {إن كنتم مؤمنين} أي: بقلوبكم أو إن بمعنى إذ فإنّ دليل الإيمان امتثال ما أمرتم به. روي أنها نزلت لما طالب بعض الصحابة بعد النهي بربا كان له قبل.
{فإن لم تفعلوا} أي: تذروا ما بقي من الربا {فائذنوا} أي: اعلموا، من أذن بالشيء إذا علم به أي: فاعلموا أنتم وأيقنوا {بحرب من الله ورسوله} لكم.
فإن قيل: هذا حكمهم إن تابوا، فما حكمهم إن لم يتوبوا؟ أجيب: بأنّ مقتضى ذلك أنهم يقاتلون إن لم يرجعوا قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني: حرب الله تعالى النار وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم السيف. وقرأ شعبة وحمزة فآذنوا بفتح الهمزة ومدّها وكسر الذال أي: فأعلموا بها غيركم وهو من الإذن وهو الاستماع لأنه من طريق العلم والباقون بسكون الهمزة وفتح الذال {وإن تبتم} أي: تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه {فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون} بطلب الزيادة {ولا تظلمون} بالنقصان عن رأس المال.

فإن قيل: هلا قال تعالى بحرب الله ورسوله؟ أجيب: بأنّ هذا أبلغ؛ لأنّ المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
ولما نزلت هذه الآية قال المرابون: بل نتوب إلى الله، فإنه لا ثبات لنا بحرب من الله ورسوله، فرضوا برأس المال فشكا من عليه الدين العسرة وقال لمن لهم الدين: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى:
{وإن كان ذو عسرة فنظرة} له أي: عليكم تأخيره {إلى ميسرة} أي: وقت يسره.
تنبيه: في كان هذه وجهان: أظهرهما أنها تامّة بمعنى حدث ووجد أي: وإن حدث ذو عسرة، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، الثاني أنها ناقصة وخبرها محذوف، قال أبو البقاء تقديره: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو نحو ذلك، وقدره بعضهم وإن كان ذو عسرة غريماً، وقرأ نافع بضمّ السين والباقون بفتحها {وأن تصدقوا} أي: بالإبراء وقرأ عاصم بتخفيف الصاد والباقون بالتشديد على إدغام التاء في الأصل والتخفيف على حذفها {خير لكم} أي: أكثر ثواباً من الإنظار وهذا مما فضل المندوب فيه الواجب، فإنّ الإبراء مندوب إليه والإنظار واجب فيحرم حبس المعسر، وهل القول قوله في إعساره أو لا بدّ من بينة تشهد بذلك ينظر إن كان الدين عن عوض كالبيع والقرض فلا بدّ من بينة، وإن كان عن غير عوض كالضمان والإتلاف والصداق، فالقول قول المعسر بيمينه وعلى الغريم البينة إلا أن يعرف له مال فلا بدّ من بينة {إن كنتم تعلمون} فضل التصدق على الإنظار فافعلوا. وقيل: المراد بالتصدّق الإنظار نفسه ورد هذا كما قال الإمام: بأنّ الإنظار قد علم مما قبل فلا بدّ من حمله على فائدة جديدة قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» .l
وروي: «من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة»

الصفحة 185