كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الملائكة تلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا له: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا قالوا: تذكر قال: ألا إني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني بأن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله تعالى: تجاوزوا عنه» وقال صلى الله عليه وسلم «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» .
{واتقوا يوماً ترجعون} أي: تصيرون {فيه إلى الله} هو يوم القيامة أي: فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم {ثم توفى} فيه {كل نفس} جزاء {ما كسبت} أي: عملت من خير أو شر {وهم لا يظلمون} بنقص حسنة أو زيادة سيئة.

فائدة: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً» وقال ابن جريج: تسع ليالٍ وقال سعيد بن جبير: سبع ليالٍ ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل وقيل: ثلاث ساعات. وقال الشعبي عن ابن عباس: آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا. ولما منع الله من الربا أذن في السلم والقرض بما يعمهما فقال:

{يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} كسلم وقرض {إلى أجل مسمى} أي: معلوم ولذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا والله سبحانه وتعالى وضع لتحصيل مثل تلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً.
فإن قيل: المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالإتفاق أجيب: بأن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير تعاملتم بما فيه دين.
فإن قيل: هلا اكتفى بقوله إذا تداينتم إلى أجل وأي حاجة إلى ذكر الدين؟ أجيب: بأنه ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله: {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولئلا يتوهم من الدائن المجازاة ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال، وفائدة قوله مسمى ليعلم أنّ من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد أو الدراس أو رجوع الحاج لم يجز للجهل بوقت الأجل، وإنما أمر بكتابة الدين؛ لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود.
فإن قيل: إنّ كلمة إذا لا تفيد العموم والمراد من الآية العموم؛ لأنّ المعنى كلما تداينتم بدين فاكتبوه، فلم عدل عن كلما وقال: إذا تداينتم؟ أجيب: بأن كلمة إذا وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنها لا تمنع من العموم وههنا قام الدليل على أنّ المراد هو العموم، واختلفوا في هذه الكتابة، فقال بعضهم: هي واجبة والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة، 10) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذين ائتمن أمانته} ثم بيّن كيفية الكتابة، فقال تعالى: {وليكتب} أي: كتاب الدين {بينكم كاتب بالعدل} أي: بالحق في كتابته لا يزيد في المال أو الأجل ولا ينقص وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به معدلاً بالشرع

الصفحة 186