كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

فشهد لنفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر فقال: شهد الله أنه لا إله إلا هو {و} شهد بذلك {الملائكة} أي: أقرّوا بذلك {و} شهد بذلك {أولو العلم} أي: بالإيمان بذلك والاحتجاج عليه.
فإن قيل: ما المراد بأولي العلم الذين عظمهم الله تعالى هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ أجيب: بأنّ المراد بهم أنهم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل والتوحيد من الأنبياء والمؤمنين وفيه دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله وقوله تعالى: {قائماً} أي: بتدبير مصنوعاته حال من الله وإنما جاز إفراده تعالى بها لعدم اللبس، وإن اختلف في جاءني زيد وعمرو راكباً فقد منعه الزمخشري وتبعه البيضاويّ وجوّزه أبو حيان وقال: يحمل على الأقرب كما في الوصف في نحو جاءني زيد وعمرو الطويل أو حال من هو والعامل فيها معنى الجملة أي: تفرّد {بالقسط} أي: بالعدل وقوله تعالى: {لا إله إلا هو} كرّر للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبنى عليه قوله تعالى: {العزيز} أي: في ملكه {الحكيم} أي: في صنعه فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدم العزيز؛ لأن العزة تلائم الوحدانية والحكمة تلائم القيام بالقسط فأتى بهما لتقرير الأمرين على ترتيب ذكرهما ورفعهما على البدل من الضمير الأوّل أو الثاني أو على الخبر المحذوف.
وعن أبي غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش، وكنت أختلف إليه، فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة فقام من الليل يتهجد فمرّ بهذه الآية، أي: شهد الله إلى آخرها ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً قلت: لقد سمع فيها فصليت معه وودّعته ثم قلت: إني سمعتك تردّدها فما بلغك فيها؟ قال: والله لا أحدّثك بها إلى سنة فمكثت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة فقال: حدّثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» ، روى هذا الحديث الطبراني والبيهقيّ لكن بسند ضعيف وقوله تعالى:
l
{إن الدين} أي: المرضي {عند الله} هو {الإسلام} جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي: لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام وهو الشرع المبعوث به الرسل كما قال تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة، 3) وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران، 85) وقرأ الكسائي بفتح الهمزة إن قيل على أنه بدل من أنه إلخ.. بدل اشتمال وضعفه أبو حيان؛ لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي قال: والصواب أنه معمول للحكيم بإسقاط الجار أي: الحكيم بأن الدين، والباقون بكسرها على الإستئناف {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} أي: من اليهود والنصارى وقيل: من أرباب الكتب المتقدّمة في دين الاسلام فقال قوم: إنه حق. وقال قوم: إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً أو في التوحيد فثلثت النصارى. وقالت اليهود: عزير ابن الله وقالوا: كنا أحق بأن تكون النبوّة فينا من قريش؛ لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب {إلا من بعد ما جاءهم العلم}

الصفحة 203