كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

*تودّ عدوّي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب*
بعين مهملة وزاي أي: بغائب والنوك بضم النون الحمق والجنون ثم استثنى فقال: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب كما قال عيسى عليه الصلاة والسلام: كن وسطاً ـ أي: في معاشرتهم ومخالفتهم ـ وامش جانباً ـ أي: من موافقتهم فيما يأمرون ويذرون ـ وهذا قبل عزة الإسلام ويجري في بلد ليس قوياً فيها، قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في بدء الإسلام قبل استحكام الدين وقوّة المسلمين وأمّا اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوّهم {ويحذركم الله} أي: يخوّفكم {نفسه} أن يغضب عليكم إن واليتموهم {وإلى الله المصير} أي: المرجع فيجازيكم فلا تتعرّضوا للسخط بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه فلا يبالي عنده بما يحذر من الكفرة.
{قل} لهم يا محمد {إن تخفوا ما في صدوركم} أي: قلوبكم من موالاة الكفار أو غيرها بما لا يرضى الله {أو تبدوه} أي: تظهروه {يعلمه الله} ويحفظه عليكم حتى يجازيكم به وقال الكلبيّ: إن تسرّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب أو تظهروه بحربه وقتاله يعلمه الله {و} هو الذي {يعلم ما في السموات وما في الأرض} لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سرّكم وعلانيتكم {وا على كل شيء قدير} فهو قادر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} لأنّ نفسه متصفة بعلم ذاتي يحيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية تعمّ المقدورات بأسرها فلا تعصوه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها لا محالة قادر على العقاب بها ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الإطلاع على أحواله بأن يوكل من يتجسس عن مواطن أموره لأخذ حذره منه كل الحذر فما بال من علم أن العالم الذي يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهمّ إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك ونسألك اليقظة من سنة الغفلة.

{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً} نصب يوم بمضمر نحو اذكر وقوله تعالى: {وما عملت} أي: عملته {من سوء} مبتدأ خبره {تودّ لو أنّ بينها} أي: النفس {وبينه} أي: السوء {أمداً بعيداً} أي: غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها، وكرّر سبحانه وتعالى: {ويحذركم الله نفسه} ، قال البيضاوي: للتأكيد والتذكير وقال التفتازاني: الأحسن ما قيل أنّ ذكره أوّلاً للمنع من موالاة الكافرين وثانياً للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشرّ وقوله تعالى: {وا رؤف بالعباد} إشارة إلى أنه تعالى: إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة إصلاحهم. وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي رؤوف بقصر الهمزة والباقون بالمدّ وورش على أصله في المدّ والتوسط والقصر ونزل في اليهود والنصارى حيث قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
{قل} لهم يا محمد {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وهم يسجدون لها فقال: «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسمعيل» فقال له قريش: إنما نعبدها

الصفحة 208