كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

من جهة الوحي.
فإن قيل: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم من غير شبهة وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ أجيب: بأنه كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة ومثل ذلك قوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربيّ} (القصص، 44) {وما كنت بجانب الطور} (القصص، 26) {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} (يوسف، 102) واذكر.
{إذ قالت الملائكة} أي: جبريل {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه} أي: بابن {اسمه المسيح عيسى بن مريم} وإنما خاطبها بنسبته إليها تنبيهاً على أنها تلده بلا أب إذ عادة الأبناء نسبتهم إلى آبائهم لا إلى أمهاتهم وبنسبته إليها فضلت واصطفيت على نساء العالمين.
فإن قيل: هذه ثلاثة أشياء: الإسم منها عيسى، وأمّا المسيح والابن فلقب وصفة أجيب: بأنّ الإسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز عمن سواه مجموع هذه الثلاثة، والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك لقوله: {وجعلني مباركاً أينما كنت} واشتقاقه من المسح؛ لأنه مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحاً بالدهن، أو لأنّ جبريل مسحه بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل، أو لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له. وقال ابن عباس: سمي مسيحاً لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برىء، ويسمى الدجال مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين وعيسى معرب إيشوع وهو بالشين المعجمة السيد. قال البيضاويّ اشتقاقه من العيس وهو بياض تعلوه حمرة وهو تكلف لا طائل تحته وقوله تعالى: {وجيهاً} أي: ذا جاه حال مقدّرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة.

فإن قيل: لم ذكر ضمير الكلمة أجيب: بأنّ المسمى بها مذكر {في الدنيا} أي: بالنبوّة والتقدّم على الناس {و} في {الآخرة} بالشفاعة والدرجات العلى {ومن المقرّبين} عند الله تعالى لعلوّ درجته في الجنة ورفعه إلى السماء وصحبته للملائكة.
{ويكلم الناس في المهد} أي: صغيراً قبل أوان الكلام كما ذكر في سورة مريم قال: {إني عبد الله آتاني الكتاب} (مريم، 30) الآية. وحكي عن مجاهد قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدّثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. والمهد ما يمهد للصبيّ من مضجعه وقوله تعالى: {وكهلاً} عطف على في المهد أي: ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولية وحال الكهولية التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء، وقد رفع بعد كهولته، وقيل: إنه رفع شاباً وعلى هذا المراد كهلاً بعد نزوله وذكر تعالى أحواله المختلفة المتنافية إرشاداً إلى أنه بمعزل عن الألوهية.
فإن قيل: فما فائدة البشارة بكلامه كهلاً والناس في ذلك سواء؟ أجيب: بأنه بشرها بأنه يبقى إلى أن يتكهل وبعدم التفاوت بين الحالين كما مرّ وقوله تعالى: {ومن الصالحين} أي: من عباد الله الصالحين حال من كلمة أو من ضميرها الذي في يكلم.
فإن قيل: لم ختم الصفات المذكورة بقوله: {ومن الصالحين} بعد كونه وجيها في الدنيا وفسرت بالنبوّة ولا شك أنّ النبوّة أرفع من منصب الصلاح بل كل واحدة من الصفات المذكورة أشرف من كونه صالحاً؟ أجيب: بأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على المنهج الأصلح وذلك يتناول جميع

الصفحة 215