كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح ولهذا قال نبيّ الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعد النبوّة {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} (النمل، 19) فلما عدّد صفات عيسى عليه الصلاة والسلام أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات.
{قالت ربّ} أي: يا سيدي فقولها لله عز وجلّ وقيل: قالته لجبريل قاله البغويّ وقال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن قولها رب نداء لجبريل بمعنى يا سيدي {أنى} أي: كيف {يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} أي: ولم يصبني رجل بتزوّج ولا غيره، قالت ذلك تعجباً إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد مولود بلا أب أو استفهاماً عن أن يكون بتزوّج أو بغيره {قال} الأمر {كذلك} من خلق ولد منك بلا أب {الله يخلق ما يشاء} القائل جبريل أو الله وجبريل حكى لها وقوله تعالى {إذا قضى أمراً} أي: أراد كون شيء {فإنما يقول له كن} صر وقرأ {فيكون} ابن عامر بفتح النون، والباقون بضمها أي: فهو يكون؛ لأنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجاً بأسباب وموادّ يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك، فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه هناك وقوله تعالى:
{ونعلمه الكتاب} أي: الكتابة {والحكمة} أي: العلم المقترن بالعمل {والتوراة والإنجيل} كلام مستأنف ذكر تطييباً لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم حين علمت أنها تلد من غير زوج وقيل: المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان لفضلهما، وقرأ نافع وعاصم بالياء والباقون بالنون.
{و} نجعله {رسولاً إلى بني إسرائيل} إما في الصبا أو بعد البلوغ وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثه إليهم وللردّ على من زعم أنه مبعوث إلى غيره.
فائدة: كان أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى عليهم الصلاة والسلام، ولما بعث إليهم قال لهم: إني رسول الله إليكم {أني} أي: بأني {قد جئتكم بآية} أي: علامة {من ربكم} تصدّق قولي، وإنما قال بآية وقد أتى بآيات؛ لأنّ الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة.
ولما قال ذلك لبني إسرائيل قالوا: وما هي؟ قال: هي {إني} قرأ نافع وحده بكسر الهمزة على الاستئناف، وفتح الياء من إني نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون {أخلق} أي: أصوّر {لكم من الطين كهيئة الطير} أي: مثل صورته فيصير طيراً كسائر الطيور وحياً طياراً، والكاف اسم مفعول وقرأ ورش بالمدّ على الياء من هيئة والتوسط كما تقدّم في شيء {فأنفخ فيه} الضمير للكاف أي: في ذلك المماثل للطير أي: في فيه {فيكون طيراً بإذن الله} أي: بإرادته نبه بذلك على أن إحياءه من الله تعالى لا منه، وقرأ نافع بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة ورقق ورش الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء من غير ألف فقراءة الجمع نظراً إلى أنه خلق طيراً كثيراً وقراءة المفرد نظراً إلى أنه نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش؛ لأنه أكمل الطير خلقاً؛ لأنّ له أسناناً وللأنثى ثدياً وتحيض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الله وليعلم أنّ الكمال لله عز وجلّ.

{وأبرىء} أي: أشفي {الأكمه} وهو الذي ولد أعمى أو ممسوح العينين. قال الزمخشريّ: ويقال لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب «التفسير» ولعل هذا على التفسير

الصفحة 216