كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

*ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها*
يعني كل النفوس.
فإن قيل: كيف يكون مصدّقاً للتوراة والإحلال يدل على أنّ شرعه كان ناسخاً لشرع موسى؟ أجيب: بأنه لا تناقض كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بالتناقض والتكاذب، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان وإنما كرر {وجئتكم بآية من ربكم} للتأكيد وليبني عليه {فاتقوا الله} أي: في مخالفة أمره أي: جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات وبغيره من ولادتي من غير أب ومن كلامي في المهد وغير ذلك، فهي في الحقيقة آيات وإنما وحدها لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على رسالته {وأطيعون} فيما أدعوكم إليه من توحيد الله وطاعته، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال:
{إنّ الله ربي وربكم} لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه {فاعبدوه} أي: لازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر والإنتهاء عن المناهي {هذا} الذي دعوتكم إليه {صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: هو المشهود له بالإستقامة.
روى الإمام أحمد وغيره أنّ رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» . ولما قال لهم ذلك كذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى:
{فلما أحس عيسى} أي: علم {منهم} علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس {الكفر قال من أنصاري} قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالسكون أي: أعواني وقوله: {إلى الله} متعلق بمحذوف حال من الياء أي: من أنصاري ذاهباً إلى الله تعالى ملتجئاً إليه تعالى لأنصر دينه وقيل: إلى هنا بمعنى مع أو في أو اللام {قال الحواريون نحن أنصار الله} أي: أعوان دينه واختلفوا في الحواريين، فقال السدي: لما بعث الله تعالى عيسى إلى بني إسرائيل كذبوه وأخرجوه فخرج هو وأمه يسبحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما، وكان لتلك المدينة جبار متعد فجاء ذلك الرجل يوماً مهتماً حزيناً فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم: ما شأن زوجك أراه كئيباً؟ قالت: لا تسأليني قالت: أخبريني لعل الله يفرّج كربته قالت: إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يوماً أن يطعمه وجنوده ويسقيهم خمراً فإن لم يفعل عاقبه واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة قالت: فقولي له لا تهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك، فقالت مريم لعيسى في ذلك قال عيسى: إن فعلت ذلك وقع شرّ قالت: فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا. قال عيسى: قولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك فدعا الله عيسى فتحوّل ماء القدور مرقاً ولحماً وماء الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط، فلما جاء الملك أكل فلما شرب الخمر قال: من أين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا قال: فإن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال: هي من أرض أخرى فلما خلط على الملك شدّد عليه قال: فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً، فلما أحضره وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام وكان أحب الخلق إليه فقال: إنّ رجلاً دعا الله تعالى فجعل الماء خمراً ليجأ به إليّ حتى يحيي ابني فدعي بعيسى إليه فكلمه في ذلك فقال عيسى: لا أفعل فإنه إن عاش
وقع شرّ. قال الملك: لا عليك.

الصفحة 218