كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

قال عيسى: إن أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ قال: نعم فدعا الله تعالى فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمّه فمرّوا بالحواريين وهم يصطادون السمك فقال: ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك قالوا: ومن أنت؟ قال: عيسى بن مريم عبد الله ورسوله فقالوا: {آمنا} أي: صدقنا {با واشهد} يا عيسى {بأنا مسلمون} لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.
{ربنا آمنا بما أنزلت} من الإنجيل {واتبعنا الرسول} عيسى {فاكتبنا مع الشاهدين} لك بالوحدانية أو مع النبيين الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم شهداء على الناس وقال الحسن: كانوا قصارين سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب أي: يبيضونها، وعلى الأوّل سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال عطاء: سلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال: يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب مختلفة الألوان وقد علمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغاً منها عند قدومي، وخرج فطبخ عيسى جباً واحداً على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال: كوني بإذن الله تعالى على ما أريد منك فقدم الحواري والثياب كلها في الجب فقال: ما فعلت؟ قال: فرغت منها قال: أين هي؟ قال: في الجب قال: كلها؟ قال: نعم قال: لقد أفسدت تلك الثياب فقال: قم فانظر فأخرج عيسى ثوباً أصفر وثوباً أخضر وثوباً أحمر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها، فجعل الحواري يتعجب وعلم أنّ ذلك من الله تعالى، فقال للناس: تعالوا فانظروا فآمن هو وأصحابه وهم الحواريون وقال الكلبي وعكرمة: الحواريون الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى أوّل من آمن به وكانوا اثني عشر من الحور وهو البياض الخاص، وحواري الرجل صفوته وخالصته. وقيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهن قال القائل:

*فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح*
قال الله تعالى:
{ومكروا} أي: كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر به، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسلام بعد إخراج قومه إياه وأمّه عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به ووكلوا به من يقتله غيلة ـ وهي بالكسر ـ أن يخدع غيره فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله فذلك مكرهم إذ المكر من المخلوق الخبث والخديعة والحيلة، وأمّا من الخالق وهو قوله تعالى: {ومكر الله} أي: بهم {والله خير الماكرين} أي: أعلمهم به، فقال الزجاج: مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الإبتداء؛ لأنه في مقابلته كقوله تعالى: {الله يستهزىء بهم} (البقرة، 15) وهو خادعهم ومكر الله تعالى بهم في هذه الآية بأن ألقى شبهه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل.
روي أنّ عيسى استقبل رهطاً من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير، فلما رأى ذلك

الصفحة 219