كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وثباتهم عليها وإنما قال الله تعالى: {ربكم} تنبيهاً على أنّ الموجب للعبادة هي الربوبية، وقوله تعالى: {الذي خلقكم} أي: أنشأكم ولم تكونوا شيئاً صفة جرت عليه للتعظيم والتعليل، ويحتمل التقييد إن خص الخطاب بالمشركين، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أرباباً والخلق: إيجاد الشيء على تقدير واستواء، وأصله التقدير، يقال: خلق النعل، إذا قدّرها وسوّاها بالقياس. وقرأ أبو عمرو خلقكم بإدغام القاف في الكاف بخلف عنه {و} خلق {الذين من قبلكم} وهذا متناول لكل ما يتقدّم الانسان بالذات أو الزمان كتقدّم الجزء على الكل والواحد على الاثنين، وهو منصوب عطف على الضمير المنصوب في خلقكم كما علم من التقدير والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم، إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف، 87) {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (الزمر، 38) أو
لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر، وقوله تعالى: {لعلكم تتقون} إما حال من الضمير في اعبدوا كأنه قال: اعبدوا، ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى نبه به على أنّ التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبرّي من كل شيء سوى الله إلى الله وأنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء، كما قال تعالى: {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً يرجون رحمته ويخافون عذابه} (الإسراء، 57) ، وإمّا من مفعول خلقكم والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من ترجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه وغلب تعالى المخاطبين بقوله: {لعلكم} على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً ولعل في الأصل للترجي وفي كلامه تعالى للتحقيق، والآية تدل على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته والعلم باستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله، وأنّ العبد لا يستحق بعبادته عليه تعالى ثواباً فإنها لما وجبت عليه شكراً لما عدّده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل وقوله تعالى:
{الذي جعل} أي: خلق {لكم الأرض فراشاً} أي: بساطاً تفرش صفة ثانية، أو منصوب بتقدير أمدح، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف، ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوابنها بارزاً عن الماء مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط وذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأنّ كرية شكلها مع عظم حجمها واتساع جرمها لا تأبى الفراش عليها فليس في ذلك إلا أنّ الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفاريش، وسواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة {و} جعل لكم {السماء بناء} أي: قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد وعلى المتعدد كالدينار والدرهم وقيل: جمع سماءة. والبناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ومنه: بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديداً، وقوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء} معطوف على {جعل} والمراد بها، إمّا السحاب فإنّ ما علاك سماء، وإمّا الفلك فإنّ المطر يبتدىء إمّا من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض كما دلت عليه الظواهر من الآيات كقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء} (لقمان، 10) وقوله تعالى: {أنزل من السماء ماءً فسلّكه ينابيع في الأرض} (الزمر، 21) ، وعن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من

الصفحة 32