كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

تعالى له ولجنده: {إني جاعل في الأرض خليفة} وجاعل من جعل الذي له مفعولان وهما في الأرض خليفة أعمل فيهما لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه ويجوز أن يكون بمعنى خالق فيتعدّى لمفعول واحد وهو خليفة والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه، أي:
جاعله بدلاً

منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة، والهاء فيه للمبالغة والمراد به لآدم صلى الله عليه وسلم لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذا كل نبيّ استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فبضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبىء ملكاً كما قال تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} (الأنعام، 9) أي: في صورة رجل ألا ترى أنّ الأنبياء لما فاقت قوّتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان من الأنبياء أعلى رتبة كلمه بلا واسطة كما كلم موسى صلاة الله وسلامه عليه في الميقات ومحمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقيل: إنه خليفة من سكن الأرض قبله، وقيل: المراد آدم وذرّيته لأنهم يخلفون من قبلهم أو يخلف بعضهم بعضاً وإفراد اللفظ إمّا للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه أو على تأويل من يخلف، وفائدة قوله هذا للملائكة تعليم المشاورة وتعظيم شأن المجعول بأن بشر تعالى بوجود سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير إلى غير ذلك {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} بالمعاصي {ويسفك الدماء} أي: يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان تعجبوا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد وقصدهم استكشاف ما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها وليس باعتراض على الله تعالى ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى: {بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء، 26) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى أو تلق من اللوح أو استنباط عما ركز في عقولهم أنّ العصمة
من خواصهم أو قياس لأحد

الثقلين على الآخر وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب {ونحن نسبح} متلبسين {بحمدك} أي: نقول سبحان الله وبحمده وهذه صلاة ما عدا الآدميين وعليها يرزقون قال تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (الإسراء، 44) أي: يقول: سبحان الله وبحمده.

روي عن أبي ذرّ: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله ملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده» وقيل: ونحن نصلي بأمرك، قال ابن عباس: كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة {ونقدّس لك} ننزهك عما لا يليق بك، فاللام صلة والجملة حال مقرّرة لجهة الإشكال كقولك: أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج، والمعنى: أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك، والمقصود منه الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف لا العجب والتفاخر، وقيل: نقدّس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح

الصفحة 45