كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين سراً: اثبتوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حق ولا يتبعونه.
{أتأمرون الناس بالبرّ} أي: بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك تقريع مع توبيخ وتعجيب، والبرّ شرعاً التوسع في الخير من البرّ بالفتح وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ولذلك قيل: البر ثلاثة: برّ في عبادة الله، وبر في معاملة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب {وتنسون أنفسكم} أي: تتركونها من البرّ كالمنسيات، وقيل: كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون {وأنتم تتلون الكتاب} أي: التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البرّ ومخالفة القول العمل {أفلا تعقلون} سوء فعلكم فيصدّكم عنه، أو فلا عقل لكم يمنعكم عما تعملون من عدم موافقة عاقبته لكم والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه بسوء صنيعه وخبث نفسه وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل فإنّ الجامع بين العلم والعقل يأبى عن كونه واعظاً غير متعظ نفسه، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لها ليقوّم نفسه ثم يقوم غيره لا منع الفاسق عن الوعظ فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر، ولكن روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمّتك يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب» وعن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه أي: فتنقطع أمعاؤه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» وقال شعبة عن الأعمش: فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه {واستعينوا} أي: اطلبوا المعونة على أموركم {بالصبر} أي: الحبس للنفس على ما تكره {والصلاة}
أفردها بالذكر تعظيماً لشأنها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين وهما الأكل والجماع.

روى الإمام أحمد وغيره «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة» أي: لجأ إليها، وحز به ـ بالحاء المهملة وزاي وباء موحدة: أهمه ونزل به، وقيل: الخطاب لليهود فهو متصل بما قبله كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال أمروا بالصبر وهو الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر لأنه يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة، وقيل: الواو بمعنى على أي: واستعينوا بالصبر على الصلاة كما قال تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} (طه، 132) ويحتمل أن يراد بالصلاة: الدعاء {وإنها} أي: الصلاة ردّ الكناية إليها لأنّ الصبر داخل فيها لاستجماعها ضروباً من الصبر كما قال تعالى: {وا ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة، 62)

الصفحة 55