كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

بالحق نبياً ما أخطأ الحدود التي حدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: «يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقاً فإني وجدت ما وعدني الله حقاً» فقال عمر: كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها، فقال: «ما أنتم أسمع لما أقول لهم منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ شيئاً» .
وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه أي: قيده وكان العباس حينئذ مأسوراً مقيداً لا يصلح، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم لم؟ قال: لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك فكانت الكراهة من بعضهم لقوله تعالى: {وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون} .

{يجادلونك في الحق} أي: القتال {بعدما تبين} إنك لا تصنع شيئاً إلا بأمر ربك {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} إليه أي: يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه وذلك أنّ المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك، وقالوا: لم يعلمنا أنا نلقى العدوّ فنستعد للقائهم، وإنما خرجنا لطلب العير، إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم إلا فارسان، وفيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم.
{وإذ} أي: واذكر إذ {يعدكم الله إحدى الطائفتين} أي: العير أو النفير، وإحدى ثاني مفعولي «يعدكم» وقد أبدل منها {أنها لكم} بدل اشتمال {وتودّون} أي: تريدون {أن غير ذات الشوكة} أي: القوة والشدة والسلاح وهي العير {تكون لكم} لقلة عددها وعددها إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارساً بخلاف النفير لكثرة عددهم وعددهم.
وقرأ أبو عمرو بادغام التاء في التاء بخلاف عنه {ويريد الله أن يحق الحق} أي: يظهره {بكلماته} أي: بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر {ويقطع دابر الكافرين} أي: يستأصلهم، والمعنى أنكم تريدون أن تصيبوا مالاً، ولا تلقوا مكروهاً والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق، وما يحصل لكم من فوز الدارين {ليحق الحق} أي: يثبت الإسلام {ويبطل الباطل} أي: يمحق الكفر {ولو كره المجرمون} أي: المشركون ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى: {ليحق الحق} بعد قوله: {أن يحق الحق} يشبه التكرار أجيب: بأنّ المعنيين متباينان وذلك أنّ الأوّل لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة على غيرها ونصره عليها.

{إذ} أي: واذكر إذ {تستغيثون ربكم} واستغاثتهم أنهم لما عملوا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون ربنا انصرنا على عدوّك أغثنا يا غياث المستغيثين.

وعن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمئة أي وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار ذال إذ عند التاء، والباقون بالإدغام، {فاستجاب لكم أني} أي: بأني فحذف الجارّ وسلط عليه استجاب فغصب محله

الصفحة 558