كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

{ممدّكم بألف من الملائكة مردفين} أي: متتابعين يردف بعضهم بعضاً، وقرأ نافع بفتح الدال، وقيل: بالفتح والكسر، والباقون بالكسر، وعدهم بالألف أوّلاً، ثم صارت ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف كما في آل عمران، فقيل: نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وميكائيل عليه السلام على الميسرة، وفيها عليّ رضي الله تعالى عنه في صور الرجال عليهم عمائم بيض وثياب بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم، فقاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين.

وروي أنّ أبا جهل قال لابن مسعود من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم.
وروي أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتدّ في طلب رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك وقد خرّ مستلقياً وشق وجهه، فحدّث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت ذاك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين» ، وعن أبي داود المازنيّ تبعت رجلاً من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.

وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: «قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف» .
وقيل: إنهم لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح عليه السلام بصيحة واحدة، وقيل: يدلّ على هذا قوله تعالى:
{وما جعله الله إلا بشرى} لكم أي: وما جعل الإرداف بالملائكة إلا بشرى لكم {ولتطمئن به قلوبكم} فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم، والصحيح أنهم قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا فيما سواه لما تقدّم {وما النصر إلا من عند الله} أي: لا من عند غيره، وأما إمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها فهي وسايط لا تأثير لها، فلا تحسبوا أن النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها، وفي ذلك تنبيه على أنّ الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله، ولا يثق بغيره، فإنّ الله تعالى بيده النصر والإعانة. {إنّ الله عزيز} أي: إنه تعالى قويّ منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كلّ شيء ويغلبه {حكيم} في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من عباده.
{إذ} أي: واذكر إذ {يغشاكم النعاس} وهو النوم الخفيف {أمنة} أي: أمناً مما حصل لكم من الخوف من عدوّكم {منه} أي: من الله تعالى؛ لأنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عددهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم، وعطشوا عطشاً شديداً ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش، وتمكنوا من قتال عدوّهم كان ذلك النوم نعمة في حقهم؛ لأنه كان خفيفاً بحيث لو قصدهم العدوّ لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: النعاس في القتال أمنة من الله تعالى، وفي الصلاة وسوسة من الشيطان، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الشين مخففة وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والشين مع التخفيف فيهما، والباقون بضم الياء وكسر الشين مشدّدة، ورفع السين من النعاس ابن كثير وأبو عمرو ونصبها

الصفحة 559