كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

النجدي، فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال النجدي: بئس الرأي تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم، فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم، ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاوة لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق والله الشيخ النجدي، فقال أبو جهل لعنه الله تعالى: والله لأشيرن عليكم برأي لا رأي غيره، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا تقوى بنو هاشم على
حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، فقال إبليس الملعون: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً القول ما قال لا أرى غيره، فتفرّقوا على قول أبي جهل مجمعين على قتله، فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب، وأخذ الله تعالى أبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} إلى قوله تعالى: {فهم لا يبصرون} (يس، 9)

ومضى إلى الغار هو وأبو بكر، وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت بمكة عنده، وكانت الودائع تودع عنده لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون علياً على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون إنه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا بادروا إليه فرأوا علياً، فقالوا له: وأين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم تكن تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثاً، ثم قدم المدينة وأبطل الله مكرهم، وهذا معنى قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} {ليثبتوك} أي: يوثقوك ويحبسوك {أو يقتلوك} كلهم قتلة رجل واحد {أو يخرجوك} من مكة {ويمكرون} بك {ويمكر الله} أي: يردّ مكرهم عليهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه، وأمرك بالخروج إلى المدينة، وأخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا {وا خير الماكرين} أي: أعلمهم به، فلا ينفذ مكرهم دون مكره.
قال البيضاوي: وإسناد أمثال هذا إنما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم، اه.
واعترض عليه بأنه لا يتعين في مثل ذلك المشاكلة بل يجوز أن يكون ذلك استعارة؛ لأنّ إطلاق المكر على إخفاء الله تعالى ما أوعده لمن استوجبه إن جعل باعتبار أنّ صورته تشبه صورة المكر فاستعارة، أو باعتبار الوقوع في صحبة مكر العبد فمشاكلة، وعلى هذا لا يحتاج كما قال الطيبي إلى وقوعه في صحبة مكر العبد قال: ومنه قول عليّ رضي الله عنه: من وسع الله تعالى عليه في دنياه ولم يعلم إنه مكر به فهو مخدوع في عقله.
{وإذا تتلى عليهم آياتنا} أي: القرآن {قالوا} أي: هؤلاء الذين ائتمروا في أمره صلى الله عليه وسلم {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} وهذا غاية مكابرتهم، وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك لفعلوه وإلا فما منعهم

الصفحة 567