كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

كقوله تعالى: {كادوا يكونون عليه لبداً} (الجن، 19)

أي: لفرط ازدحامهم، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه الكافر على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم من المال الطيب الذي أنفقه المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيركمه جميعاً {فيجعله في جهنم} في جملة ما يعذبون به كقوله تعالى: {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} (التوبة، 35)
الآية، واللام على هذا متعلقة بتكون من قوله تعالى: {ثم تكون عليهم حسرة} وعلى الأوّل متعلقة بيحشرون أو يغلبون.
وقرأ {ليميز} حمزة والكسائيّ بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية مع الكسر والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية، وقوله تعالى: {أولئك} إشارة إلى الذين كفروا {هم الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.

ولما بيّن تعالى ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى طريق الصواب.
فقال: {قل} يا محمد {للذين كفروا} كأبي سفيان وأصحابه {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} أي: قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عن الكفر وقتال النبيّ صلى الله عليه وسلم يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم {وإن يعودوا} أي: إلى الكفر ومعاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم {فقد مضت سنة الأوّلين} أي: بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، واختلفوا هل الكافر الأصلي مخاطب بفروع الشريعة؟ وهل يسقط عن المرتدّ ما مضى في حال ردّته كالكافر الأصلي كما هو ظاهر الآية؟ وهل الردّة تحبط ما مضى من العبادات قبلها، ذهب أصحاب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه مخاطب بدليل قوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} (المدثر، الآيات: 42 ـ 43)
الآية، وأنّ المرتدّ لا تسقط عنه العبادات الفائتة في الردّة تغليظاً عليه، وأنّ الردّة لا تحبط ما مضى، وقد تقدّم الكلام على ذلك في المائدة، وعن يحيى بن معاذ أنه قال: توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
ولما بيّن تعالى أنّ هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران، وإن عادوا فهم متوعدون سنة الأوّلين أتبعه بالأمر بقتالهم إذا أصرّوا، فقال تعالى:
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي: شرك كما قاله ابن عباس، وقال الربيع: حتى لا يفتن أحدكم عن دينه؛ لأنّ المؤمنين كانوا يفتنون عن دين الله في مبدأ الدعوة، فافتتن من المسلمين بعضهم، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة {ويكون الدين كله} خالصاً {} تعالى وحده لا يعبد غيره {فإن انتهوا} عن الكفر {فإن الله بما يعملون بصير} أي: فيجازيهم به.

{وإن تولوا} عن الإيمان {فاعلموا أنّ الله مولاكم} أي: ناصركم ومتولي أموركم {نعم المولى} هو فإنه لا يضيع من تولاه {ونعم النصير} أي: الناصر، فلا يغلب من ينصره فمن كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخالفات.

{واعلموا أنما غنمتم} أي: أخذتم من الكفار الحربيين

الصفحة 570