كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

كما ظهر من قريظة والنضير {فانبذ} أي: اطرح عهدهم {إليهم} ، وقوله تعالى: {على سواء} حال أي: مستوياً أنت وهم في العلم بنقض العهد، بأن تعلمهم به؛ لئلا يتهموك بالغدر إذا نصبت الحرب معهم {إنّ الله لا يحبّ الخائنين} أي: في نقض العهد أو غيره.
روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً، فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية، قال الرازي: حاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بقتل من ينقض العهد على أقبح الوجوه، وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه، من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه، قال أهل العلم: إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن عاهدهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض، إمّا أن يظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به، فإن كان الأوّل وجب الإعلام عليه على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك أن قريظة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فحصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء، ويعلمهم بالحرب، وأمّا إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في ذمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيش النبيّ صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
ولما بيّن تعالى ما يفعله صلى الله عليه وسلم في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه، وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد، بين أيضاً حال من فاته في يوم بدر وغيره لكي لا تبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية النبيّ صلى الله عليه وسلم مبلغاً عظيماً بقوله تعالى:
{ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} أي: خلصوا من القتل والأسر يوم بدر {إنهم لا يعجزون} الله أي: لا يفوتونه بهذا السبق في الانتقام منهم، إمّا في الدنيا، وإمّا في الآخرة بعذاب النار، وفيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن، فاته من المشركين ولم ينتقم منه، فأعلمه الله تعالى أنهم لا يعجزونه، وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص يحسبن بالياء على الغيبة على أن الفعل للذين كفروا، والباقون بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرد من صدر منه نقض العهد إلى من خاف منه النقص واتفق لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار بقوله تعالى:

{وأعدوا لهم} أي: لقتالهم {ما استطعتم من قوّة} الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه، وفي المراد بالقوّة أقوال.
الأوّل: الرمي وقد جاءت مفسرة به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً» أخرجه مسلم، وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين

الصفحة 578