كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وقال غيرهما: الصحيح إنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام، وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وهذا ظاهر.
وقرأ شعبة بكسر السين، والباقون بالفتح {وتوكل على الله} أي: فوض أمرك إليه فيما عقدته معهم؛ ليكون عوناً لك في جميع أحوالك {إنه هو السميع} ؛ لأقوالهم فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك، وفي غيره كما يسمعه علانية {العليم} بنياتهم فهو يعلم كل ما أخفوه كما إنه يعلم كل ما أعلنوه.
{وإن يريدوا} أي: الكفار {أن يخدعوك} أي: بإظهار الصلح ليستعدوا لك {فإن حسبك} أي: كافيك {الله هو الذي أيدك بنصره} في سائر أيامك، فإن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوّل حياته إلى وقت وفاته كان أمراً إلهياً وتدبيراً علوياً، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل {و} أيدك {بالمؤمنين} أي: الأنصار.

فإن قيل: فإذا كان الله تعالى مؤيده بنصره، فأيّ حاجة مع نصره تعالى إلى المؤمنين؟ أجيب: بأن التأييد ليس إلا من الله تعالى دائماً لكنه على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة، والثاني ما يحصل بذلك فالأوّل هو المراد من قوله تعالى: {أيدك بنصره} ، والثاني: هو المراد من قوله تعالى: {وبالمؤمنين} والله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو الذي أقامهم بنصره ثم بيّن تعالى كيف أيده بالمؤمنين بقوله تعالى:
{وألف} أي: جمع {بين قلوبهم} وذلك إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، وحميتهم عظيمة حتى لو أنّ رجلاً من قبيلة لطم لطمةً واحدة، قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً دعاة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية، مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم} أي: تناهت عداوتهم إلى حد لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم تقدر على الإلفة والصلاح بينهم {ولكن الله ألف بينهم} بقدرته البالغة، فإنه تعالى المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء {إنه} أي: الله تعالى {عزيز} أي: غالب على أمره لا يعصى عليه ما يريد {حكيم} لا يخرج شيء عن حكمته، وقيل: الآية نزلت في الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم فأنساهم الله تعالى ذلك، وألف بين قلوبهم بالإسلام حتى تصادقوا وصاروا أنصاراً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته.

{يأيها النبيّ حسبك} أي: كافيك {ا} .

فإن قيل: هذا مكرّر، أجيب: بأنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على جميع التقديرات، فلا يلزم حصول التكرار؛ لأنّ المعنى في الآية الأولى: إن أرادوا خداعك كفاك الله تعالى أمرهم، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين وقوله تعالى: {ومن اتبعك من المؤمنين} إمّا في محل نصب على المفعول معه كقول الشاعر:
*فحسبك والضحاك سيف مهند*
يروي الضحاك بالنصب على أنه مفعول معه، والمعنى: كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً، أو رفع عطفاً على اسم الله تعالى أي: كفاك الله وكفى المؤمنين، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن سعيد بن

الصفحة 580