كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

يرتفع بالابتداء؛ لأن إن من عوامل الفعل، فلا تدخل على غيره. {ذلك} أي: الأمر بالإجارة للغرض المذكور {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قوم لا يعلمون} أي: لا علم لهم لأنهم لا عهد لهم بنبوّة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم، وقوله سبحانه وتعالى:

{كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله} استفهام معناه الجحد أي: لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد {إلا الذين عاهدتم} أي: من المشركين {عند المسجد الحرام} يوم الحديبية وهم المستثنون قبل {فما استقاموا لكم} أي: أقاموا على العهد ولم ينقضوه {فاستقيموا لهم} أي: على الوفاء وهو كقوله تعالى: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم} (التوبة، 4)

غير أنه مطلق وهذا مقيد، وما تحتمل الشرطية والمصدرية. {إنّ الله يحب المتقين} أي: من اتقى يوفي بعده لمن عاهده، وقد استقام صلى الله عليه وسلم على عهدهم حتى نقضوه بإعانة بني بكر على خزاعة. وقوله تعالى:
{كيف} تكرار للاستبعاد بثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوماً أي: كيف يكون لهم عهد ثابت {وإن} أي: والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة، فهم إن {يظهروا عليكم} أي: يعلو أمرهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق {لا يرقبوا} أي: لا يراعوا {فيكم} أي: في أذاكم بكل جليل وحقير {إلا} أي: قرابة محققة قال حسان:

*لعمرك إن إلّك من قريش ... كإلِّ السقب من رأل النعام*
السقب: ولد الناقة، والرأل: ولد النعامة، والخطاب في لعمرك لأبي سفيان، أي: لا قرابة بينك وبين قريش كما لا قرابة بين ولد الناقة وولد النعامة. وقيل: إلا إلهاً، وقيل: جبريل {ولا ذمة} أي: عهداً بل يؤذوكم ما استطاعوا وقوله تعالى: {يرضونكم بأفواههم} أي: بكلامهم كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد {وتأبى قلوبهم} أي: عن الوفاء به لمخالفة ما فيها من الأضغان {وأكثرهم فاسقون} أي: راسخو الأقدام في الفسق.

فإن قيل: الموصوفون بهذه الصفة كفار، والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم. وأيضاً الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله: وأكثرهم فائدة؟ أجيب: بأنّ الكافر قد يكون عدلاً في دينه، فلا ينقض العهد، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه فينقضه، فالمراد بالفسق هنا نقض العهد، وكان في المشركين من وفى بعهده، فلهذا قال: وأكثرهم أي: إنّ هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهد أكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم. وقال ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال: {وأكثرهم فاسقون} حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام.
{اشتروا} أي: استبدلوا {بآيات الله} أي: القرآن {ثمناً قليلاً} أي: عرضاً يسيراً من الدنيا، وهو اتباع الأهواء والشهوات مع مصاحبة الكفر، وذلك أنّ أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم فنقض العهد الذي بينهم بسبب تلك الأكلة {فصدوا} أي: فتسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا {عن سبيله} أي: منعوا الناس من الدخول في دينه {إنهم ساء} أي: بئس {ما كانوا يعملون} أي: عملهم

الصفحة 591