كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

هذا، وما دل عليه قوله تعالى:
{لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة} فهو تفسير لا تكرير، وقيل: الأوّل عام في المنافقين، وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. {وأولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {هم المعتدون} الذين تعدوا ما حد الله لهم في دينه وما يوجبه العقد والعهد.
ولما بيّن تعالى حال من لا يرقب في الله إلاً ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدّى ما حدّ الله تعالى له بين ما يصيرون به من أهل دينه بقوله تعالى:

{فإن تابوا} أي: رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به {وأقاموا الصلاة} أي: المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها {وآتوا الزكاة} المفروضة عليهم طيبة بها نفوسهم {فإخوانكم} أي: فهم إخوانكم {في الدين} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقوله تعالى: {ونفصل الآيات لقوم يعلمون} اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين.
{وإن نكثوا} أي: نقضوا {أيمانهم} أي: عهودهم. {من بعد عهدهم} الذي عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحداً من أعدائكم {وطعنوا في دينكم} أي: وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه. {فقاتلوا أئمة الكفر} أي: الكفار بأسرهم، وإنما خص الأئمة منهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع منهم على هذه الأعمال الباطلة، وقال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وأبي جهل وسائر رؤساء قريش، وهم الذين نقضوا عهودهم وهموا بإخراج الرسول، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة وحققها الباقون، وقول البيضاوي: والتصريح بالياء لحن تبع فيه الكشاف التابع للفراء، وهو مردود، فالجمهور من النحاة والقراء على جواز قلب الهمزة الثانية حرف لين، فبعضهم على جعلها بين بين، وبعضهم على قلبها ياء خالصة، وقوله تعالى: {إنهم لا أيمان لهم} قرأ ابن عامر بكسر الهمزة أي: لا تصديق لهم ولا دين وليس في ذلك دلالة على أنّ توبة المرتدّ لا تقبل، والباقون بالفتح جمع يمين أي: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان، وإلا لما طعنوا في دينكم ولم ينكثوا، وفيه دليل على أنّ الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده أي: إن شرط ذلك عليه كما هو مذهبنا وتمسك أبو حنيفة رحمه الله تعالى بهذا على أنّ يمين الكافر لا تكون يميناً وعند الشافعيّرخمه الله تعالى يمينهم منعقدة، ومعنى هذه الآية عنده أنهم لما لم يؤمنوا بها صارت أيمانهم
كأنها ليست بأيمان والدليل على أنّ يمينهم منعقدة أنّ الله تعالى وصفها بالنكث في قوله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم} ولو لم تكن منعقدة لما صح وصفها بالنكث وقوله تعالى: {لعلهم ينتهون} متعلق بقاتلوا أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن ينتهوا عما هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وهذا في غاية كرم الله تعالى وفضله على الإنسان وليس الغرض إيصال الأذية لهم كما هو طريقة الموحدين.
ولما قال تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} أتبعه بذكر ثلاثة أسباب تبعثكم على مقاتلتهم، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد، فكيف بها حال الاجتماع: أحدها ما ذكره تعالى بقوله:
{ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} أي: نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا

الصفحة 592