كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} (الأعراف، 142) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله
تعالى في محله فكانت فتنتهم في تلك العشرة، فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ورأوا العجل وسمعوا قول السامريّ عكف منهم ثمانية آلاف رجل على العجل يعبدونه، وقيل: كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل، قال البغويّ: وهو الأصح، وقال الحسن: كلهم عبدوه إلا هارون، ولذلك قال تعالى: {وأنتم ظالمون} أي: باتخاذه لوضعكم العبادة في غير محلها.
{ثم عفونا} محونا {عنكم} ذنوبكم حين تبتم، والعفو محو الجريمة من عفى إذا درس {من بعد ذلك} أي: الاتخاذ {لعلكم تشكرون} أي: لكي تشكروا نعمتنا عليكم.

تنبيه: إنما قدرت لعل بكي أخذاً مما قيل: إن لعل في القرآن بمعنى كي غير قوله تعالى في الشعراء: {لعلكم تخلدون} (الشعراء، 129) فإنها بمعنى كأنّ أي: كأنكم تخلدون.
{و} اذكروا {إذ آتينا موسى الكتاب} أي: التوراة، وقوله تعالى: {والفرقان} عطف تفسير أي: الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام، وقيل: أراد بالفرقان معجزات موسى كانفلاق البحر الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى وبين الكفر والإيمان {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات من الضلال.
{و} اذكروا {إذ قال موسى لقومه} الذين عبدوا العجل {يا قوم إنكم ظلمتم} قرأ ورش بتغليظ اللام والباقون بالترقيق {أنفسكم باتخاذكم العجل} إلهاً قالوا: فأيّ شيء نصنع؟ قال: {فتوبوا} أي: ارجعوا عن عبادة العجل {إلى بارئكم} أي: خالقكم، وقرأ أبو عمرو بإسكان الهمزة، وروي عن الدوري باختلاس الحركة، وروي عن السوسي إبدالها ياء ساكنة، وأمال الدوري عن الكسائي الألف بعد الباء الموحدة، وإذا وقف حمزة على بارئكم سهل الهمزة بين بين، قالوا: كيف نتوب؟ قال: {فاقتلوا أنفسكم} أي: ليقتل منكم البريء من عبادة العجل من عبده، وقيل: المراد بالقتل قطع الشهوة كما قيل: من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها، وردّ هذا جماعة بإجماع المفسرين على أنّ المراد هنا القتل الحقيقيّ {ذلكم} أي: القتل {خير لكم عند بارئكم} من حيث أنه طهرة عن الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا: نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم: من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته وأسلت القوم عليهم الخناجر فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه فلم يمكنه المضيّ لأمر الله فقالوا: يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل الله عليهم ضبابة تشبه سحابة تغشى الأرض كالدخان وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتتلون إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وبكيا وتضرّعا وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله تعالى السحابة عنهم وأمرهم أن يكفوا عن القتل فكشفت عن ألوف من القتلى.
روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: عدد القتلى سبعون ألفاً فاشتدّ ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة؟ فكان من قتل منهم شهيداً ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى: {فتاب عليكم} أي فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم أي: فتجاوز عنكم وقبل توبتكم.

تنبيه: ذكر البارىء في قوله تعالى:

الصفحة 60