كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

فكان حجهم يقع تارة في وقته وتارة في المحرّم وتارة في صفر وتارة في غيرهما من الشهور فأعلم الله تعالى أنّ عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهراً على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تعالى: {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} أي: في علمه وحكمه {في كتاب الله} أي: في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل وهو أصل الكتب التي أنزلها الله تعالى على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً {يوم خلق السموات والأرض} أي: إنّ هذا الحكم حكم به قضاه يومئذ أي: السنة اثنا عشر شهراً {منها} أي: الأشهر {أربعة حرم} ثلاثة سواء ذو القعدة بفتح القاف وذو الحجة بكسر الحاء على المشهور فيهما وسميا بذلك لقعودهم عن القتال في الأوّل ولوقوع الحج في الثاني، والمحرّم بتشديد الراء المفتوحة سمي بذلك لتحريم القتال فيه وقيل: لتحريم الجنة فيه على إبليس ودخلته اللام دون غيره من الشهور لأنه أوّلها فعرفوه كأنه قيل: هذا الشهر الذي ابتدأ أول السنة
وواحد فرد وهو رجب ويجمع على أرجاب ورجاب ورجوب ورجبات، ويقال له: الأصم والأصب، وقيل: لم يعذب الله أمّة في شهر رجب ورد عليه بأنّ الله تعالى أغرق قوم نوح فيه قاله الثعلبي، وهذا الترتيب الذي ذكرناه في عد الأشهر الحرم وجعلها من سنتين هو الصواب كما قاله النوويّ في شرح مسلم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وعدها الكوفيون من سنة واحدة فقالوا: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، قال ابن دحية: وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا نذر صيامها مرتبة فعلى الأوّل يبتدىء بذي القعدة وعلى الثاني بالمحرم ومعنى الحديث أنّ الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسىء الذي كان في الجاهلية وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة ومعنى الحرم أنّ المعصية فيها أشدّ عقاباً والطاعة فيها أكثر ثواباً والعرب كانوا يعظمونها جدّاً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرّض له.
فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة فما السبب في هذا التمييز؟ أجيب: بأنّ هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلع الرسالة وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة {ذلك} أي: تحريم الأشهر الأربعة {الدين القيم} أي: المستقيم وهو دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والعرب ورثوه منهما، وقيل: المراد بالدين الحساب يقال: الكيس من دان نفسه أي: حاسبها، والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على

الصفحة 610