كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

هذا التقدير ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدد المستوي وقال الحسن: ذلك الدين القيم الذي لا يبدل ولا يغير فالقيم هنا بمعنى القائم الدائم الذي لا يزول وهو الدين الذي فطر الناس عليه {فلا تظلموا فيهنّ} أي: الأشهر الحرم {أنفسكم} بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزراً لأنّ الله تعالى خص هذه الشهور بمزيد احترام في آية أخرى وهو قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة، 197)
فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضاً إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهاً على زيادتها في الشرف وقال ابن عباس: إنّ المراد فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقاً في جميع العمر قال الفراء: والأوّل أولى لأنّ العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة فيهنّ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها: والأصل فيه أنّ جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة كما قال حسان:
*لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما*
قال: يلمعن ويقطرن لأن الأسياف والجفنات جمع قلة ولو جمع جمع الكثرة لقال: تلمع وتقطر هذا في الاختيار ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة:
*ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب*
فقال: بهن، والسيوف جمع كثرة، وقيل: المراد بالظلم المقاتلة في هذه الأشهر، وقيل: النسيء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الذي أمر الله تعالى بإقامته فيه إلى شيء آخر ويغيرون تكاليف الله تعالى والجمهور على أنّ حرمة المقاتلة في الأشهر الحرم منسوخة، وعن عطاء لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأوّل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوّال وذي القعدة، وقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة} أي: جميعاً في كل الشهور {كما يقاتلونكم كافة واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصرة ومن كان معه نصر لا محالة.
{إنما النسيء} أي: التأخير لحرمة شهر إلى آخر كما كانت الجاهلية تفعل كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرّموا مكانه شهراً آخر ورفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرّد العدد فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمون صفر ويستحلون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع وهكذا شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها وكانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي القعدة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذا باقي شهور السنة فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة في ذي القعدة قبل حجة الوداع بسنة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجه في شهر ذي الحجة وهو شهر الحج المشروع فوقف بعرفة في اليوم التاسع وخطب بالناس في اليوم العاشر وأعلمهم أنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ـ الحديث المتقدّم ـ وأمرهم بالمحافظة على ذلك لئلا يتبدل في مستأنف الأيام وقد رجع المحرّم إلى موضعه الذي وضعه الله تعالى وذلك بعد دهر طويل.
وروي عن أبي

الصفحة 611