كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كنّ يسترهم فشكوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم عليه فأرسل الله غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن قمر يسيرون في ضوئه وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلي وغلظ ورش اللام المفتوحة بعد الظاء {وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى} في التيه، والأكثرون على أنّ المنّ هو الترنجبين، قال مجاهد: هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد وكان يقع كل ليلة على أشجارهم مثل الثلج لكل إنسان منهم صاع فقالوا: يا موسى قتلنا هذا المنّ بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم، فأنزل الله عليهم السلوى جمع سلواة وهو الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جمع سماناة وهو الطير المعروف، وقيل: هو طائر يشبهه بعث الله سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض فكان الله تعالى ينزل عليهم المنّ والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فكان كل واحد منهم يأخذ ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت. وقرأ السلوى حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين.
فإن قيل: لم قدّم في الآية المنّ على السلوى مع أنها غذاء والمنّ حلواء والعادة تقديم الغذاء على الحلواء؟ أجيب: بأنّ نزول المنّ من السماء أمر مخالف للعادة فقدم لاستعظامه بخلاف الطيور المأكولة وأيضاً هو مقدّم في النزول عليهم {كلوا} على إرادة القول أي: قلنا لهم كلوا {من طيبات} حلالات {ما رزقناكم} ولا تدخروا لغد فكفروا النعمة وادّخروا فقطع الله ذلك عنهم ودوّد وفسد ما ادّخروه وقوله تعالى: {وما ظلمونا} أي: بذلك فيه اختصار وأصله فظلموا بأن كفروا بهذه النعم وما ظلمونا {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} لأنّ وباله عليهم.

روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها الدهر» .
{وإذ قلنا} لهم بعد خروجهم من التيه {ادخلوا هذه القرية} أي: بيت المقدس كما قاله مجاهد، أو أريحاء بفتح الهمزة وكسر الراء وبالحاء المهملة كما قاله ابن عباس وهي قرية الجبارين كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم: العمالقة ورأسهم عوج بن عتق، قال ابن الأثير وهي قرية بالغور قريبة من بيت المقدس، وقيل: البلقاء، وقيل: الرملة والأردن وفلسطين، وقيل: الشام سميت القرية قرية لأنها تجمع أهلها ومنه المقرّة للحوض لأنها تجمع الماء {فكلوا منها حيث شئتم رغداً} أي: واسعاً لا حجر فيه {وادخلوا الباب} أي: باب من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب {سجداً} أي: متطامنين منحنين أو ساجدين السجود الشرعيّ لله شكراً على إخراجكم من التيه {وقولوا} مسألتنا {حطة} أي: أن تحط عنا خطايانا، قال قتادة: أمروا بالاستغفار، وقال ابن عباس: بلا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب، وقيل: معناه أمرنا حطة أي: شأننا أن نحط في هذه القرية ونقيم فيها حتى ندخل الباب سجداً مع التواضع {نغفر لكم خطاياكم} بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بباء مضمومة على التذكير مع فتح الفاء، وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة

الصفحة 62