كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

وثمود {أو} بعذاب {بأيدينا} أي: بسببنا من قتل ونهب وأسر وغير ذلك {فتربصوا} بنا ما ذكرنا من عواقبنا {إنا معكم متربصون} ما هو عاقبتكم ولا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه.
{قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أنفقوا طوعاً أو كرهاً} أي: من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين.
وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأنّ رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم {لن يتقبل منكم} أي: لا تقبل منكم نفقاتكم على أيّ حال كان.

فإن قيل: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: {لن يتقبل منكم} ؟ أجيب: بأن هذا أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} (مريم، 75)
وروي أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مالي أعينك به فاتركني.
ثم علل تعالى سبب منع القبول بقوله تعالى: {إنكم} أي: لأنكم {كنتم قوماً فاسقين} والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه قوله تعالى:
{وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا با وبرسوله} أي: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم، وقرأ حمزة والكسائي: يقبل، بالياء على التذكير لأنّ تأنيث النفقات غير حقيقي، والباقون بالتاء على التأنيث {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} أي: متثاقلون لا يأتونها قط بنشاط {ولا ينفقون} أيّ: نفقة من واجب أو غيره {إلا وهم كارهون} أي: في حال الكراهة وإن ظهر خلاف ذلك وذلك كله لعدم النية الصالحة وهذا لا ينافي طوعاً لأنّ ذلك بحسب الظاهر وهذا بحسب الواقع.

{فلا تعجبك} يا محمد {أموالهم} أي: وإن أنفقوها في سبيل الله وجهزوا بها الغزاة فإنّ ذلك من غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية {ولا أولادهم} الذين يتجملون بهم فإنّ ذلك استدراج ووبال كما قال تعالى: {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} وإن كان يتراءى أنها لذيدة لأنّ ذلك من شأن الحياة وتعذيبهم فيها بسبب ما يكابدون من جمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب.

فإن قيل: هذا لا يختص بالمنافق فما فائدة تخصيصه به؟ أجيب: بأنّ المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذاباً والمنافق لا يعتقد ذلك فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والمشقة والغم والحزن على المال والولد عذاباً عليه في الدنيا {وتزهق} أي: تخرج {أنفسهم} بسببها {وهم} أي: والحال أنهم {كافرون} أي: يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة وهكذا كل من أراد الله تعالى استدراجه في الغالب كثر ماله وولده فكثر إعجابه بماله وولده وبطره وكفره نعمة الله تعالى.
والإعجاب السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه وهذه الحالة تدل على استغراق النفس بذلك الشيء وانقطاعه عن الله تعالى فإنه لا يبعد في حكم الله تعالى أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بذلك الشيء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «هلك المكثرون» ، وقال أيضاً: «مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست

الصفحة 621