كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

فأبليت أو تصدّقت فأبقيت» .
وروي من كثر ماله اشتدّ حسابه ومن أراد من السلطان قرباً ازداد من الله بعداً والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة والمقصود منها الزجر عن الإطناب من الدنيا والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها لأنّ الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتدّ عجبه بالدنيا وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا، ولما بين تعالى كون المنافقين مستجمعين لكل مضار الدنيا والآخرة خالين عن جميع منافع الآخرة والدنيا عاد إلى ذكر فضائحهم وقبائحهم فمنها إقدامهم على الأيمان الكاذبة كما قال تعالى:

{ويحلفون} أي: المنافقون {با} للمؤمنين إذا جاؤوا معهم {إنهم لمنكم} أي: على دينكم وملتكم {وما هم منكم} أي: لكفر قلوبهم {ولكنهم قوم يفرقون} أي: يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية.
{لو يجدون ملجأ} أي: حصناً يلجؤن إليه وقيل: لو وجدوا مهرباً هربوا إليه، وقيل: لو يجدون قوماً يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم وفارقوكم {أو مغارات} أي: سراديب جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي: يستتر {أو مدّخلاً} أي: موضعاً يدخلونه {لولوا إليه} والمعنى أنهم لو وجدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة مع أنها شر الأمكنة لدخلوا إليه وتحرّزوا فيه {وهم يجمحون} أي: يسرعون في دخول ذلك المكان إسراعاً لا يردّ وجوههم شيء ومن هذا يقال: جمح الفرس وهو فرس جموح وهو الذي إذا حمل لا يرده اللجام، ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من قبائح المنافقين وهو طعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أخذ الصدقات بقوله تعالى:
{ومنهم من يلمزك} أي: يعيبك {في الصدقات} قال أبو على الفارسي: ههنا محذوف والتقدير يعيبك في تقسيم الصدقات واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري: بيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مالاً إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم رأس الخوارج وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين واستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه فقال له صلى الله عليه وسلم «دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» . وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين يقال له الجوّاظ المنافق: ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أبا لك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً» فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» ، وقال ابن زيد قال المنافقون: والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا هواه فنزلت.

وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: «ماعلمك بفلان» فقال: ما لي به علم إلا أنك تدنيه في المجلس وتجزل له العطاء فقال صلى الله عليه وسلم «إنه منافق أداريه عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره» فقال: لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه فقال صلى الله عليه وسلم «إنه مؤمن أكمل إيمانه وأما

الصفحة 622