كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

مدائنهم ما أبعده من ذلك وقيل: كانوا يقولون: إنّ محمداً يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن وإنما هو قوله وكلامه فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: «احبسوا الركب عليّ فدعاهم وقال لهم: قلتم كذا وكذا فقال: {إنما كنا نخوض ونلعب} أي: كنا نتحدّث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لنقطع الطريق بالحديث واللعب» قال الله تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المنافقين {أبا} أي: بفرائضه وحدوده وأحكامه {وآياته} أي: القرآن وسائر ما يدل على الدين الذي لا يمكن تبديله ولا يخفى على بصير ولا بصيرة {ورسوله} محمد صلى الله عليه وسلم الذي عظمته من عظمته وهو مجتهد في إصلاحكم وتشريفكم وإعلائكم {كنتم تستهزؤن} توبيخاً وتقريعاً لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به وإلزاماً للحجة عليهم ولا يعبأ باعتقادهم الكاذب، ولما كان الاستهزاء بذلك كفراً قال الله تعالى:
{لا تعتذروا} أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الباطلة {قد كفرتم} أي: أظهرتم الكفر بقولكم هذا {بعد إيمانكم} أي: بعد إظهار الإيمان.
فإن قيل: المنافقون لم يكونوا مؤمنين فكيف قال تعالى: {قد كفرتم بعد إيمانكم} ؟ أجيب: بأنهم كانوا يكتمون الكفر ويظهرون الإيمان فلما حصل ذلك الاستهزاء منهم وهو كفر فقد أظهروا الكفر بعدما أظهروا الإيمان كما تقرّر {إن نعف عن طائفة منكم} أي: بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق {نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} أي: مصرين على النفاق والاستهزاء قال محمد بن إسحاق: الذي عفا الله عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض وكان يمشي مجانباً لهم وكان ينكر بعض ما يسمع والعرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول خرج فلان إلى مكة على الجمال والله تعالى يقول: {الذين قال لهم الناس} (آل عمران، 173)
يعني: نعيم بن مسعود فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهمّ إني لا أزال أسمع آية تقرأ تقشعر منها الجلود وتخفق منها القلوب اللهمّ اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه وقرأ عاصم نعف بالنون مفتوحة وضم الفاء ونعذب طائفة بنون مضمومة وكسر الذال وطائفة بالنصب والباقون إن يعف بياء مضمومة وتعذب بضم التاء وفتح الذال وطائلة بالرفع ثم بين تعالى نوعاً آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم والمقصود منه بيان أنّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة بقوله تعالى:
{المنافقون والمنافقات بعضم من بعض} أي: متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان كإبعاض الشيء الواحد كما يقول الإنسان لغيره أنا منك وأنت مني أي: أمرنا واحد لا مباينة فيه {يأمرون بالمنكر} أي: يأمر بعضهم بعضاً بالشرك والمعصية وتكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم {وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم} أي: عن الإنفاق في كل خير من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله، والأصل في هذا أنّ المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده فقبض اليد كناية عن الشح وقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملنا النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذماً لأن النسيان ليس في وسع البشر ولخبر: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأيضاً فهو في حق الله تعالى محال

الصفحة 628