كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

والمنافقين بقوله تعالى:

{يأيها النبيّ جاهد الكفار} أي: المجاهرين {والمنافقين} أي: الساترين كفرهم بظهور الإسلام.
فإن قيل: الآية تدلّ على وجوب مجاهدة المنافقين وهو غير جائز فإن المنافق كما مرّ من يستر كفره ويقرّ بلسانه ومن كان كذلك لم تجز محاربته ومجاهدته أجيب: بأن ليس في الآية ما يدلّ على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر وإنما تدلّ على وجوب الجهاد مع الفريقين وكيفية تلك المجاهدة إنما تعرف من دليل آخر وقد دلت الدلائل المفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف ومع المنافقين بالحجة والبرهان وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
قال القاضي: وهذا ليس بشيء لأنّ إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لها تعلق بالنفاق. ولما كان صلى الله عليه وسلم مطبوعاً على الرفق وحسن الخلق قال تعالى: {واغلظ عليهم} أي: بالانتهار والمقت في الجهادين لا تعاملهم بمثل ما عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في القعود وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال: {المنافقون والمنافقات} فقدم في كل سياق الأليق به {ومأواهم} أي: مسكنهم في الآخرة {جهنم وبئس المصير} أي: المرجع هي.

{يحلفون} أي: المنافقون {با ما قالوا} أي: ما بلغك عنهم من السب والمفسرون ذكروا في أسباب نزول هذه الآية وجوهاً.
الأوّل: روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد: لئن كان ما يقول محمد في إخواننا الذين خلفناهم بالمدينة حقاً لنحن شرّ من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاريّ للجلاس: أجل والله إنّ محمداً صادق وأنت شرّ من الحمار، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضره فحلف بالله عز وجل ما قاله فرفع عامر يده وقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت فقال الجلاس: لقد ذكر الله تعالى التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر ثم تاب وحسنت توبته.
الثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وأراد به الرسول صلى الله عليه وسلم فسمع زيد بن أرقم ذلك فبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم فهم عمر رضي الله عنه بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله بن أبي وحلف أنه لم يقل.
الثالث: روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الجهني على الغفاري فقال عبد الله بن أبي للأوس: انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قاله فنزلت {ولقد قالوا كلمة الكفر} وهي سب النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: هي كلمة الجلاس بن سويد، وقيل: هي كلمة عبد الله بن أبيّ {وكفروا بعد إسلامهم} أي: وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام {وهموا بما لم ينالوا} أي: من قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك توافق خمسة عشر منهم إذا تسنم العقبة أي: علاها بالليل فأخذ عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة

الصفحة 633