كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة {وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار} أي: هي كثيرة المياه فكل موضع أردته نبع منه ماء يجري منه نهر. وقرأ ابن كثير بزيادة من تحتها وبجرّ التاء بعد الحاء والباقون بغير من وفتح التاء، ثم نفى سبحانه الانقطاع بقوله تعالى: {خالدين فيها} وأكد المراد من الخلود بقوله تعالى: {أبداً} ثم استأنف مدح هذا الذي أعدّه لهم بقوله تعالى: {ذلك} أي: الأمر العالي الرتبة {الفوز العظيم} ولما شرح تعالى أحوال منافقي المدينة ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم وهم السابقون والمهاجرون والأنصار، ذكر أنّ جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق بقوله تعالى:
{وممن حولكم} أي: أهل بلدتكم وهي المدينة {من الأعراب منافقون} وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها وقوله تعالى: {ومن أهل المدينة} عطف على خبر المبتدأ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت: ومن أهل المدينة قوم {مردوا على النفاق} على أن مردوا صفة موصوف محذوف كقول الشاعر:
*أنا ابن جلا وطلاع الثنايا*
أي: أنا ابن رجل جلا فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
وقال الزجاج: في الآية تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق أي: ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه وأصل المرود الملاسة ومنه صرّح ممرّد وغلام أمرد {لا تعلمهم} بأعيانهم أي: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله تعالى: {نحن نعلمهم} أي: لا يعلمهم إلا الله تعالى ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين لا تشك معه في إيمانهم وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به فلهم فيه اليد الطولى واختلفوا في تفسير قوله تعالى: {سنعذبهم مرّتين} فقال الكلبي والسدي: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق» فأخرج من المسجد جماعة من المنافقين وفضحهم فهذا هو العذاب الأوّل والثاني عذاب القبر.
فإن قيل: كيف هذا مع قوله تعالى {لا تعلمهم نحن نعلمهم} ؟ أجيب: بأنه تعالى أعلمه بهم بعد ذلك. وقال مجاهد: الأوّل: القتل والسبي، والثاني: عذاب القبر، وقال ابن زيد: الأوّل: المصائب في الأولاد، والثاني: عذاب الآخرة، وقال ابن عباس: الأوّل: إقامة الحدود عليهم، والثاني: عذاب القبر، وقيل: عذبوا بالجوع مرّتين، وقيل: الأول: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والثاني: عذاب القبر، وقيل: الأوّل: إحراق مسجدهم مسجد الضرار، والثاني: إحراقهم بنار جهنم كما قال تعالى: {ثم يردون} أي: في الآخرة {إلى عذاب عظيم} هو النار وقوله تعالى:
{وآخرون} أي: وقوم آخرون مبتدأ وقوله تعالى: {اعترفوا بذنوبهم} ولم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة نعته، والخبر {خلطوا عملاً صالحاً} أي: وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك {وآخر سيئاً} أي: وهو تخلفهم {عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله عفور رحيم} يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة

الصفحة 646