كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 1)

الآية، وقال أبو هريرة: زار النبيّ صلى الله عليه وسلم قبر أمّه آمنة فبكى وأبكى من حوله وقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزورها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت، وقال قتادة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: تستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.

وروى الطبراني بسنده عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رجالاً قالوا: يا نبيّ الله إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الرحم ويفك العاني أفلا نستغفر لهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم «والله لأستغفرنّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} أي: بأن ماتوا على الكفر قال البيضاوي: وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر فقال:
{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} أي: وعدها إبراهيم أباه بقوله: لأستغفرنّ لك أي: لأطلبنّ مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب أي: يقطع ويمحو ما قبله، وقرأ هشام: أبراهام بالألف بعد الهاء في الموضعين، والباقون بالياء فيهما {فلما تبيّن له أنه عدو} بأن مات على الكفر أو أوحى الله تعالى إليه إنه لن يؤمن {تبرأ منه} أي: قطع استغفاره {إنّ إبراهيم لأوّاه} أي: كثير التضرع والدعاء {حليم} أي: صبور على الأذى والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار لأبيه مع صعوبة خلق أبيه عليه.

{وما كان الله ليضل قوماً} أي: يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم المنهي عنه {بعد إذ هداهم} للإسلام {حتى يبيّن لهم} بياناً شافياً لداء العمى {ما يتقون} أي: ما يجب اتقاؤه للنهي، أمّا قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه، وقيل: إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر وغير ذلك، وفي الجملة دليل على أنّ الغافل غير مكلف {إنّ الله بكل شيء عليم} أي: بالغ العلم فهو يبيّن لكم ما تأتون وما تذرون مما يتوقف عليه الهدى وما تركه تعالى فإنما يتركه رحمة لكم لا يضل ربي ولا ينسى.
{إن الله له ملك السموات والأرض} فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم أو يضرّكم {يحيي ويميت} أي: يحيي من شاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من شاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده {وما لكم} أيها الناس {من دون الله} أي: غيره {من ولي} يحفظكم منه {ولا نصير} يمنع عنكم ضرره.
{لقد تاب الله} أي: أدام توبته {على النبيّ والمهاجرين والأنصار} وافتتح الله تعالى الكلام بذكر توبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه كان سبب توبتهم فذكره معهم كقوله تعالى: {فأنّ خمسه وللرسول} (الأنفال، 41)

ونحوه، وقيل: هو بعث على التوبة والمعنى ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى: {وتوبوا

الصفحة 655